أهل غزة ليسوا مسؤولية المنظمات الدولية ولا البنك الدولي فهؤلاء شركاء القاتل، هم مسؤولية كلّ عربي، وكلّ وطني، وكلّ طامح للحرية.
أفاد تقرير صدر عن البنك الدولي في 12 أيلول/سبتمبر 2024 بعنوان "توفير الحياة الطويلة الصحية وأثرها القوي: التغيّر الديموغرافي والأمراض غير السارية ورأس المال البشري" أنه بحلول عام 2050 سيكون شخص من كلّ ثلاثة أشخاص قد بلغ عمر الستين عاماً، وذلك من خلال تحسين أنظمة الخدمات السارية وخاصة مكافحة الأمراض السارية، والحد من الفقر، وتعزيز الإنتاجية، وتوفير المياه الصالحة للشرب.
أي أننا بحسب التقرير المذكور سنكون قادرين على إنقاذ حياة 150 مليون شخص، وإطالة أعمار ملايين أخرى في الدول النامية.
التقرير الصادر من واشنطن، لا يلحظ أنّ 40738 إنساناً من غزة لن يكون بين من سيقوم البنك الدولي وواشنطن بإنقاذ حياتهم، من بين هؤلاء 710 رضّع عمر كلّ منهم أقلّ من عام واحد. بعد إزالة الركام سيرتفع هذا العدد بنسبة 20% بحسب بعض التقديرات الأولية. لن تتحسّن الخدمات الصحية في القطاع لأنّ الطائرات التي تحمل قذائف آتية من واشنطن دمّرت أكثر من 70% من البنية التحتية الصحية، فقد تمّ تدمير 15 مستشفى بشكل كامل، و23 مستشفى بشكل جزئي.
المياه ملوّثة بشكل متعمّد نتيجة قصف الطائرات والدبابات، وقد انتشرت جائحة الكوليرا، وسُجّلت أول حالة شلل أطفال بعد اختفاء المرض لعقود طويلة.
لم يذكر تقرير البنك الدولي شيئاً عن الخدمات الصحية والمياه الصالحة للشرب في غزّة، ولم تبشّرنا واشنطن إلّا بالمزيد من الدعم العسكري الذي يجعل تقرير البنك الدولي فارغاً من مضمونه.
بحسب آخر تقرير لوزارة الصحة الفلسطينية بلغ عدد الشهداء في قطاع غزّة 40738 إنساناً، ويتوقّع أن يتجاوز هذا الرقم 50 ألف شهيد بعد رفع الأنقاض، أي أنّ ما نسبته 2.5% من سكان القطاع قد استشهدوا، هذا ما يعادل 2.5 مليون إنسان لو أن هذه الخسائر كانت في دولة مثل مصر، و3.5 ملايين إنسان لو حدثت الحرب في نيجيريا.
منذ بداية الألفية الثالثة ومنطقتنا تدفع ثمن أزمة الرأسمالية. لقد جاء انهيار اقتصاديات النمور الآسيوية، في العقد الأخير من القرن الماضي، ليُصدم النظام الرأسمالي بحقيقة أن قدرته على التمدّد انتهت، وأنّ الاقتصادات الوطنية الصاعدة تشقّ طريقها لتصبح لاعباً اقتصادياً مهماً على المستوى العالمي. لجأت الرأسمالية إلى لعبتها التاريخية؛ صناعة الأزمة وتحويلها إلى فرصة. أزمات في محيط روسيا وحرب في جورجيا، حرب على أفغانستان، احتلال العراق وارتكاب أفظع المجازر فيه، حروب في أميركا اللاتينية وأفريقيا. قتلى بالملايين وصندوق البنك الدولي يؤدي دور العرّافة العمياء، فهو يتحدّث عن المستقبل المشرق للبشرية، في الوقت الذي تحوّل فيه النظام العالمي إلى كارثة عسكرية، واقتصادية وبيئية.
لم تستطع الرأسمالية رغم كلّ ما قامت به مغادرة مربّع الأزمة، خاصة بعد الانهيار المالي عام 2008. الحلّ الوحيد كان إعادة تركيز الثروة داخل المراكز الرأسمالية، وهذا لن يتحقّق إلا برفع وتيرة نهب الشعوب، وتحويل الدول إلى دول فاشلة. جاء الربيع "الأميركي – الصهيوني" مستهدفاً الدول التي تملك الثروة بمعناها الاقتصادي (الثروات الطبيعية والبشرية)، والدول التي تمتلك توجّهات أو مشاريع تطوير لاقتصادها الوطني.
هذا الربيع لم يصب بلادنا فقط، بل أصاب أميركا اللاتينية، فقد شهدت فنزويلا عدة محاولات للانقلاب على الثورة البوليفارية، والبرازيل التي لُفّقت تهمة فساد لرئيسها لولا دا سيلفا لإبعاده عن الرئاسة، والأرجنتين التي قاد اليمين شبه انقلاب مدعوم أميركياً على حكومتها اليسارية، والانقلاب في بوليفيا على حكومة إيفو موراليس الذي قال "أسوأ عدو للإنسانية هو الرأسمالية، وهي المسؤولة عن الاحتجاجات الشعبية كما يحدث في بلدنا الآن".
في حروب نقل الثروة نحو المركز الرأسمالي سقط ملايين الضحايا، بعناوين مختلفة أشهرها مكافحة الإرهاب، ونشر الديمقراطية، من دون أن تغيب تقارير المنظمات الدولية عن انتهاك حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات، وحقوق المرأة والطفل. كلّ هذا الجهد موجّه ضدّ البلدان المستهدفة، فوفاة امرأة واحدة بشكل طبيعي في أحد المخافر في إيران أقامت قيامة العالم ولم تقعدها، في حين أنّ قتل 6297 امرأة في غزة أمام الكاميرات وصور الأقمار الصناعية لا يستدعي أكثر من إدانة خجولة في بعض الأحيان، ودعوات للتحقيق في الأرقام ودقّتها، فقد يكون العدد أقل بعشر أو عشرين شهيدة، عندها ستكون لهجة الإدانة أقلّ قسوة.
قامت ما تسمّى "الثورة السورية" بسبب ادعاء كاذب بخلع أظافر طفل واحد، حُشدت الجيوش العربية والغربية، وافتتحت غرف العمليات، وجاء مقاتلو الحرية الرأسمالية من كلّ أصقاع العالم، وشاهدنا مجازر تشيب لها الوِلدان من قطع للرؤوس وأكل للأكباد، وسط مباركة عربية وغربية انتصاراً لقيم الحرية الليبرالية، أما إعدام 11355 طفلاً في غزة، فهو لا يعني أحداً، مجرد خبر مثير وصور تستدعي الغضب والحسرة ثم تمضي لتأتي صور أخرى نستدلّ منها على وحشية العدو وتمضي، وتأتي صور أخرى فنغمض أعيننا لأننا تعبنا وتمضي.
يقول البعض عن الشهداء "ليسوا أرقاماً"، وأقول بل هم أرقام مؤلمة، هم 1.5% من أطفال شعب كانوا سيصنعون مستقبله، وضعفهم على الأقل أصيب بعاهات دائمة، ومثلهم أصيبوا بصدمات نفسية مزمنة، هل ندرك ماذا يعني فقدان شعب لأكثر من 5% من صنّاع مستقبله. أن يفقد شعب نحو 7% من قواه العاملة من رجال ونساء. الأرقام مهمة، الحرب ومن يتواطأ مع العدو لم يقضوا على حلم طفل أو شاب بمستقبل أفضل، بل يسعى للقضاء على حلم شعب بأكمله بمستقبل فيه شيء من الاستقلال والكرامة.
علينا أن نتذكّر هذه الأرقام كلّ صباح، ونبحث عن طريقة لدعم هؤلاء الذين يضحون في سبيل أمة. أن نقدّم لهم نصف ما نأكل وما نشتريه لأبنائنا، وما نحلم به لأنفسنا. أهل غزة ليسوا مسؤولية المنظمات الدولية ولا البنك الدولي فهؤلاء شركاء القاتل، هم مسؤولية كلّ عربي، وكلّ وطني، وكلّ طامح للحرية، لنتعلّم أن نطرح على أنفسنا سؤالاً كلّ صباح؛ ماذا سأفعل اليوم لغزّة؟