تغيرات عديدة طرأت على تكتيكات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، ما يمكن أن يشكّل تحوّلاً كبيراً على صعيد إدارة المعركة، وعلى صعيد الإمكانيات المستخدمة فيها أيضاً.
ليس غريباً أن نقول إن هناك قناعة باتت تترسّخ أكثر فأكثر لدى فصائل المقاومة الفلسطينية، ولدى بقية أطراف محور المقاومة في المنطقة، بشأن إمكانية تحوّل الحرب التي يشنّها العدو الصهيوني على قطاع غزة منذ أكثر من أحد عشر شهراً، إلى ما يشبه حرب الاستنزاف طويلة المدى، والتي لا تتوفّر حتى الآن على الأقل معظم المعطيات الميدانية أو السياسية التي يمكن أن تساعد على إنهائها أو حتى توقفها لفترة مؤقّتة، إذ إن هذه الحرب التي تتوسّع وتمتد، وإن بشكل غير منتظم، إلى بقية محافظات الوطن في الضفة الغربية المحتلة، باتت تأخذ أشكالاً ووضعيّات، سواء على مستوى التكتيك أو الاستراتيجيا، أقرب إلى الحروب الطويلة منها إلى الحروب ذات المديات الزمنية القصيرة أو حتى المتوسّطة.
في الميدان، وعلى الرغم من الكثير من الأخبار المتعلّقة بحالة الإرهاق والملل التي باتت تنتاب جنود الاحتلال في غزة، وعدم رغبة الكثير منهم، خصوصاً على مستوى الضبّاط، في مواصلة القتال، وأن هناك عجزاً واضحاً على صعيد هذه الفئة من الجنود، تبدو التطوّرات غير مشجعة فيما يخص إمكانية ذهاب هذه الحرب المجنونة إلى خواتيمها، إذ إن ما يتم فرضه من وقائع ومتغيّرات على الأرض من قِبل "جيش" الاحتلال مثل ما يحدث على الحدود الفلسطينية-المصرية من تثبيت للمنطقة العازلة في ما يُسمى محور "فيلادلفيا "، أو توسيع ممر "نتساريم" الفاصل بين المنطقة الشمالية من القطاع والمناطق الوسطى والجنوبية منه، والذي يشهد منذ أكثر من ثلاثة أسابيع عملية عسكرية واسعة تسعى من خلالها قوات الاحتلال بتوجيه من المستوى السياسي إلى زيادة مساحة الأمان حول هذا الممر، وخصوصاً من ناحيته الشمالية باتجاه مدينة غزة.
تشير المعلومات الواردة من عين المكان أن الاحتلال يحاول جاهداً زيادة هذه المسافة إلى أكثر من ثلاثة كيلومترات، لتصل إلى الشارع رقم 8 وليس إلى الشارع رقم 9 كما كان أعلن سابقاً، وهذا يؤكد بشكل أو بآخر عدم وجود نية صادقة لدى "الدولة" العبرية بإنهاء الحرب، بل أكثر من ذلك، بأنها تسعى إلى احتلال مستدام لأجزاء من القطاع المحاصر والصغير، ومصادرة مساحات واسعة من أراضيه تحت ذريعة إقامة مناطق عازلة على الحدود الشمالية والشرقية والجنوبية منه، بالإضافة إلى تقطيع أوصاله من خلال محور "نتساريم"، الذي سيقضم وحده أكثر من 35 كيلومتراً من أراضي القطاع البالغة 365 كلم، أما في حال تم تثبيت المناطق العازلة على حدوده الثلاثة المشار إليها أعلاه بعمق يتراوح بين كيلومتر واحد إلى كيلومترين اثنين، فإن هذه المسافة قد تصل إلى نحو 140كلم، أي نحو 35 % من المساحة الإجمالية للقطاع.
على المستوى السياسي، فالأوضاع ليس بأحسن حالاً من نظيرتها في الميدان، إذ تشير كل المعطيات إلى أن كل ما يتم الحديث عنه من تقدّم في مفاوضات وقف إطلاق النار، والتي يحاول الجانب الأميركي تحديداً إشاعة أجواء إيجابية حولها خدمة لأهداف داخلية تصب في مصلحة الحزب الديمقراطي ومرشحته كامالا هاريس من جهة، ومحاولة للتخفيف من حجم الانتقادات اللاذعة التي باتت توجّه إلى الدور الأميركي المتماهي والمتساوق مع الموقف الإسرائيلي بشكل غير مسبوق من جهة أخرى، فإن الوقائع التي باتت واضحة كالشمس تشير إلى عكس ذلك تماماً، وهي تؤكد ما ذهب إليه الكثير من المحللين منذ أشهر طويلة حول وجود مصلحة مشتركة لدى الجانبين الإسرائيلي والأميركي في إطالة أمد الحرب إلى أطول فترة ممكنة، لا سيّما في ظل فشل العدو الصهيوني وإخفاقه المستمر في تحقيق أيٍ من أهداف الحرب المعلنة، وهو الأمر الذي يعني حاجته إلى مزيد من الوقت على أمل تمكّنه من تحقيق إنجاز ما قد يعيد إليه ما فقده من قدرة الردع، ويجنّب نتنياهو وائتلافه اليميني المتطرف المزيد من الفشل بما يمكن أن يؤدي إلى تفكك هذا الائتلاف، وإلى انتهاء المستقبل السياسي لكل أقطابه، وفي المقدمة منهم نتنياهو والأحمقان بن غفير وسموتريتش.
بناءً على ما تقدّم، وقياساً على الكثير من المعطيات الأخرى التي لا يتّسع المجال لذكرها في هذه العجالة، بالإضافة إلى ما بحوزة المقاومة من معلومات مؤكدة كونها أقرب إلى الميدان وإلى طاولة المفاوضات كذلك، فإن تغيّراً ما قد طرأ على تكتيكات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، تحديداً الطريقة الأمثل للتعامل مع هذا الواقع المختلف، والذي يمكن له- كما تقول بعض المصادر- أن يشكّل تحوّلاً كبيراً ومهماً على صعيد إدارة المعركة، وعلى صعيد الإمكانيات المستخدمة فيها أيضاً، وقد بدت بعض تأثيرات ذلك التغيّر تظهر إلى العلن في ميدان القتال، وإن من دون إعلان مسبق خلال الأسبوعين الأخيرين تحديداً.
أحد هذه التغيّرات له علاقة بحجم ونوع العمليات التي تنفذها المقاومة ضد قوات العدو الصهيوني، سواء أثناء عمليات التصدّي للتوغلات والاقتحامات، كما يحدث حالياً في رفح والزيتون على سبيل المثال، أو في ما يتعلق بالهجمات الصاروخية التي تستهدف مستعمرات غلاف غزة وبعض المدن المحتلة مثل عسقلان وأسدود وغيرها.
فالمتتبّع لخط سير عمليات المقاومة خلال الفترة الأخيرة يجد أنه بدأ يأخذ منحنى هبوط بشكل ملحوظ، وهذا يدل عليه انخفاض واضح وملحوظ في البيانات التي تصدرها الفصائل للإعلان عن عملياتها العسكرية ضد قوات الاحتلال، ومرد هذا الانخفاض، كما يبدو، يعود إلى محاولة المقاومة الاقتصاد في مخزونها التسليحي الذي استخدمت منه نسبة كبيرة خلال الشهور الماضية، مع أن هذا الأمر -حسب اعتقادنا- لا يعني أنها تعاني عجزاً تسليحياً أو على مستوى القدرات، خصوصاً أنها أعادت تشغيل العديد من ورش التصنيع التابعة لها، كما نشرت أكثر من مرة من خلال فيديوهات موثّقة، لا سيّما تلك المخصّصة لصناعة الصواريخ والعبوات الناسفة.
ثاني التغيّرات يتعلّق بتوفير المزيد من القدرات والإمكانيات العسكرية والبشرية والاستخبارية للحفاظ على الأسرى الصهاينة الذين ما زالوا في قبضة المقاومة، وهم يعدّون الورقة الأهم لديها، ومن دونهم تفقد المقاومة أحد أهم مصادر القوة لديها، وهو الأمر الذي يُعطي الطرف الآخر فرصة أكبر لتنفيذ كل ما يسعى إليه من عمليات قتل وإبادة جماعية، من دون أي ضغوط تُذكر، لا سيّما على المستوى الصهيوني الداخلي، والذي ازدادت خلال الأسبوع الأخير حجم احتجاجاته ضد استمرار الحرب، خصوصاً بعد الإعلان عن مقتل الأسرى الستة في رفح.
بعد نجاح العدو، وبمساعدة أميركية مباشرة، في استعادة أربعة أسرى أحياء في عمليته "المثيرة" في النصيرات، والتي ارتكب خلالها مجزرة مروّعة أدّت إلى استشهاد أكثر من 250 مواطناً فلسطينياً، اتخذّت المقاومة العديد من الإجراءات لمنع تكرار ذلك، بعد أن استخلصت العبر مما حدث، وقامت باتخاذ العديد من الإجراءات المتعلّقة بالتأمين، كما أعلنت أكثر من مرة، إلى جانب إصدار توجيهات صارمة لفرق الحراسة الخاصة لديها حول كيفية التعامل مع الأسرى في حال اقتراب قوات العدو من أماكن احتجازهم.
هذه التحوّلات في هذا الملف الحسّاس تحديداً تحتاج، من دون أدنى شك، إلى توفير المزيد من الإمكانيات البشرية والتسليحية لتأمين جغرافيا وجود الأسرى، بالإضافة إلى زيادة عمل المجموعات الاستخبارية ومكافحة التجسّس التابعة للمقاومة، إلى جانب وحدات الإسناد اللازمة لمواجهة أي طارئ.
التغيّر الثالث الذي بدا واضحاً خلال الفترة الأخيرة هو تركيز المقاومة على رفع وتيرة الجهد الإغاثي المقدّم للمواطنين في مدن القطاع، سواء على صعيد المعونات الغذائية المقدّمة لهم، والتي تصل بصعوبة بالغة، لا سيّما في المنطقة الشمالية من القطاع، أو على صعيد محاولة تأمين الرعاية الصحية اللازمة لهم، والذين هم في أمسّ الحاجة إليها، خصوصاً في ظل انتشار الأمراض والأوبئة، إضافة إلى العدد الكبير من المصابين والجرحى الذين يسقطون يومياً نتيجة اعتداءات الاحتلال.
في هذا الجانب تحديداً، تدور معركة حامية الوطيس بين المقاومة و"جيش" الاحتلال، الذي يسعى إلى تجفيف كل مصادر الدعم المالي والغذائي بكل صورة ممكنة، ويحاول منع أي عمليات إغاثة منظّمة في هذا الإطار، بل ويذهب إلى أكثر من ذلك من خلال استهداف قوافل المساعدات، وفرق التأمين، وصولاً إلى استهداف عمّال الإغاثة الأجانب وقتلهم، كما حدث أكثر من مرة.
المقاومة من جانبها تخصّص جزءاً مهماً وكبيراً من إمكانياتها البشرية والمالية لسد العجز الحاصل في هذا الجانب، وهي تسعى على الرغم من عمليات الاستهداف الممنهج لناشطيها الاجتماعيين والإغاثيين لزيادة وتيرة عملها في هذا المجال، ولديها كما يبدو مروحة واسعة من الأدوات والخيارات، التي تحاول تطويرها وتحديثها بين كل فترة وأخرى لمواجهة التحدّيات الهائلة التي تواجهها.
إلى جانب ما سبق، هناك الكثير من الإشارات التي تفيد باستعداد المقاومة للتكيّف مع حرب استنزاف طويلة الأمد، منها حسب ما تقول وسائل إعلام عبرية سعيها لترميم قدراتها العسكرية، خصوصاً في ما يخص سلاح الأنفاق، بالإضافة إلى شبكة الاتصالات الخاصة بها، والتي تُعدّ حلقة الوصل الأهم بين غرف عمليات المقاومة وبين المقاتلين في الميدان، إلى جانب تجنيدها آلاف المقاتلين الجدد من فئة الشباب، والذين يملكون دافعية كبيرة للقتال، ويبحثون عن أي فرصة يتمكّنون من خلالها من التصدّي لـ"جيش" الاحتلال، خصوصاً أنهم فقدوا العديد من عوائلهم وأقربائهم نتيجة عدوان الاحتلال، ويملكون إلى جانب رغبتهم في القتال من أجل وطنهم، رغبة الثأر والانتقام ممن قتل آباءهم وأمهاتهم وإخوانهم.
ختاماً، يمكننا القول إنه، وعلى الرغم من التكلفة الهائلة التي يدفعها الشعب الفلسطيني ومقاومته في قطاع غزة، كما هي الحال في مدن الضفة الغربية المحتلة، نتيجة العدوان الهمجي الذي تشنّه قوات الاحتلال عليهم، وعلى الرغم من افتقاد الجبهة الداخلية الفلسطينية للكثير من المقوّمات والإمكانيات اللازمة لمواجهة هذا النوع من الحروب، لا سيّما في ظل التفوّق الهائل لـ"الدولة" العبرية المجرمة في كثير من المجالات، فإنه من غير الوارد على الإطلاق أن يتراجع هذا الشعب عن مطالبه المحقّة والمشروعة في حياة كريمة كبقية شعوب العالم، وعلى أرضه التي دفع من أجل الحفاظ عليها أثماناً باهظة وغير مسبوقة.
هذا الشعب بما يملكه من مقاومة شريفة وعزيزة ومقتدرة، إلى جانب حلفائه الموثوقين في محور المقاومة، والذين قدّموا وما زالوا جلّ ما يملكون من أجل مساندته والدفاع عنه، قادر بعون الله على تخطّي المحنة، وتجاوز الأزمة التي، وعلى الرغم من طول مدّتها، ستزول عاجلاً أو آجلاً، وستسقط بلا ريب كل رهانات المحتلين والمتآمرين تحت أقدام هذا الشعب الصامد، وسيكتب التاريخ أن شعباً فقيراً ومحاصراً من القريب ومن البعيد قد انتصر على أسوأ احتلال عرفته البشرية، وعلى كل حلفائه في محور الشر العالمي بزعامة الشيطان الأكبر أميركا.