"عائشة التي قتلت كانت تقف في مكانها، دون أن تواجه قوات الاحتلال كما لم تشارك بإلقاء الحجارة عليهم، ومع ذلك استهدفت بطلقة نارية في الرأس، مما يعني تقصد أحد قناصة جيش الاحتلال قتلها عمدًا"...
"أطلب من الأشخاص الذين يهتمون بي، أو لديهم شيء من الاهتمام بي، أن يستغلوا وجودي في فلسطين المحتلة لكي يبحثوا جديًا عن معلومات بشأن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ولا سيما حول دور الولايات المتحدة في استمراريته". كان هذا ما كتبته الناشطة الأميركيّة من حركة التضامن الدولية مع الشعب الفلسطيني راشيل كوري Rachel Corrie، ابنة الـ 24 عامًا، قبل أسبوعين من مقتلها بعد أن سحقتها في يوم 16 آذار/مارس 2003 جرافة إسرائيلية أثناء دفاع كوري ووقوفها درعًا ضد هدم أحد البيوت في رفح خلال الانتفاضة الثانية. وأول أمس قتلت برصاص جيش الاحتلال في بلدة بيتا جنوبي مدينة نابلس عائشة نور عزقي إيغي، ناشطة تبلغ من العمر 26 عامًا، ومتضامنة دولية مع قضية الشعب الفلسطيني، وهي مواطنة أميركيّة من أصل تركي.
إذا كان الاستهداف المتعمد من قبل جيش الاحتلال للمتضامنين الأجانب مع الشعب الفلسطيني، وفي فلسطين يعد حديثًا نسبيًا، منذ مطلع القرن الحالي، وتحديدًا مع الانتفاضة الثانية، فإن التضامن الأجنبي ذاته وحركته، يعودان إلى مرحلة أبكر من تاريخ الصراع ومقارعة الاحتلال منذ ستينيات القرن الماضي، فمن المتضامنين الأجانب، من وصل به انحيازه لعدالة قضية فلسطين إلى حد تركه بيته وبلاده، والتحاقه بفصائل مقاومته، وكان أشهرهم الكاتب والروائي الفرنسي جان جينيه، الذي التحق سنة 1968 بمعسكرات الفدائيين الفلسطينيين في الأردن، "منذ ذلك الحين تورّطت غراميًا بالكفاح الفلسطيني"، يقول جينيه في حوار معه عن دعمه لفلسطين والكفاح الفلسطيني.
ومن المتضامنين من ذهب إلى أبعد من ذلك، ففي الثلاثين من أيار/مايو 1972 نفذ ثلاثة يابانيين من منظمة "الجيش الأحمر الياباني" عملية مسلحة في مطار بن غوريون عرفت بـ "عملية اللد"، أسفرت عن مقتل 24 شخصًا من بينهم سبعة إسرائيليين، وظلت عملية اللد، بمثابة ذروة الاحتقان المتضامن مع الفلسطينيين ضد إسرائيل واحتلالها، وكانت الصحف العبرية أولًا وأكثر من علق غضبًا في أواخر أيار/مايو 2022، إثر إطلاق سراح فوساكو شينغوبو مؤسسة "الجيش الأحمر الياباني" بعد سجن دام قرابة 20 عامًا في اليابان، حيث أطلق سراحها تزامنًا مع الذكرى الخمسين لعملية اللد تقريبًا، ولم تشترك شينغوبو في العملية، لكنها كانت المدبرة، وبالتالي "ما كان أن ترى قيصرة الإرهاب النور أبدًا" ظل لسان حال الإعلام العبري يقول أيام إطلاق سراحها.
غير أن استهداف جيش الاحتلال للمتضامنين الأجانب السلميين منذ الانتفاضة الثانية في الضفة والقطاع، يأتي في سياق آخر متصل في تحول الوعي التضامني العالمي مع فلسطين وشعبها، ووقد صنف كل من نيف غوردون ونيكولا بيروجي هذا التحول في كتابهما "الدروع البشرية: تاريخ بشر على خط النار"، على أنه ترس بشري طوعي للدفاع عن قضية عادلة، أي تحويل المتضامن جسده إلى ترس أو درع بشري بملء إرادته في مواجهة عنف جيش الاحتلال في الأراضي المحتلة. وهذا لم يرتبط بفلسطين حصرًا، إنما بالحروب وعنفها عامة، التي سعى الترس البشري الطوعي إلى وقفها منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، فـ "بات أروسميث – Pat Arrowsmith" الذي شارك في تأسيس فريق "السلام الخليجي" سنة 1990 لمنع حرب الخليج الأولى، يعود نشاطه إلى خمسينيات القرن الماضي، حين دعا وحشد آلاف الأشخاص للسير من لندن إلى مؤسسة أبحاث الأسلحة الذرية في ألدرماستون للاحتجاج على تطوير الأسلحة النووية.
كما كان أروسميث من بين مؤسسي مجموعة قامت في سنة 1967 من أجل تعزيز المقاومة اللاعنفية ضد العدوان الأميركي على فيتنام عن طريق إرسال دروع بشرية طوعية لتقاسم مخاطر القصف مع الشعب الفيتنامي.
لم يبدأ المتضامن البريطاني "توم هوردنال – Tom Hurdnall" الذي انتهت مسيرته في فلسطين منها، إنما قدم إلى فلسطين من العراق بعد أن كان من بين مجموعة التدخل السلمي "من أسفل" التي دعا لها المحارب الأمريكي المتقاعد "كينيث أوكيف – Kenneth O’Keefe" سنة 2002 من أجل وقف الغزو الأمريكي على العراق. وقد وصل هوردنال إلى البلاد في خضم الانتفاضة الثانية سنة 2003، وانضم إلى حركة التضامن الدولية التي أنشأها فلسطينيون وإسرائيليون وأجانب بغرض تقديم المساعدة للفلسطينيين من خلال الاحتجاجات غير العنيفة والعمل المباشر المتمثل بالتترس الطوعي.
في كانون الثاني/يناير 2004، عندما تعرض مخيم يبنا للاجئين في جنوبي رفح لإطلاق نار كثيف، لاحظ هوردنال ثلاثة أطفال فلسطينيين محاصرين في منطقة تتعرض للهجوم الإسرائيلي، فحمل طفلًا صغيرًا، ونقله إلى بر الأمان، ولما عاد ليحمي الطفلين الآخرين، أصيب برصاص أحد قناصة جيش الاحتلال في رأسه. لم يمت هوردنال على الفور، إنما نقل إلى مستشفى سوروكا في بئر السبع، وبقي موته سريريًا، ثم نقلته عائلته إلى أحد مستشفيات مسقط رأسه في بريطانيا، وتوفي بعد تسعة أشهر من إصابته. ما كان للقناص الذي استهدف المتضامن البريطاني في رفح أن يدان في إسرائيل لولا الضغط الدبلوماسي البريطاني على إسرائيل، خصوصًا بعد أن خلص التحقيق العسكري الإسرائيلي إلى أن هوردنال قد قتل خطأ. والأهم من الضغط الدبلوماسي، كان هوية القناص لكونه مجندًا عربيًا، فقد أدين تيسير الهيب من كتيبة الجوالة البدوية في جيش الاحتلال بالقتل غير العمد، وحكم عليه بالسجن إحدى عشرة سنة ونصفًا، قضى منها في السجن فعليًا خمس سنوات.
قتل هوردنال، بعد أسابيع قليلة من مقتل راشيل كوري التي قضت تحت عجلات جرافة لجيش الاحتلال، وفي رفح أيضًا. ارتحلت كوري من الولايات المتحدة، وحطت في رفح، واعتبرت نشاطها في قطاع غزة، بأنه شكل من أشكال "المعارضة الوطنية". وكانت تذهب على مدار أسابيع إلى موقع الهدم، فتقف بين الجرافة والمنازل الفلسطينية، وهي ترتدي سترة برتقالية، ومعها مكبر صوت توجه عبره نداءها لسائق الجرافة كي يوقف عمله إلى أن أقدم على سحقها حتى الموت في يوم 16 آذار/مارس 2003، بينما سائق جرافة الاحتلال ظل يصر على القول إنه لم ير كوري.
بحسب مؤلفي كتاب "الدروع البشرية" كانت كوري تدرك تمام الإدراك ما يؤمن لها "بياض بشرتها من امتياز"، أشارت إليه كوري نفسها على أنها كانت تستخدمه لحماية المدنيين السمر والبنى التحتية المدنية، ومع ذلك، وعلى خلاف ما حل بالدروع البشرية الطوعية في العراق، فإن الامتياز الأبيض لم يحصن كوري ضد عنف الاحتلال الإسرائيلي، يقول مؤلفًا كتاب الدروع. وأسوأ من قتل المتضامنة كوري، كان الطريقة التي أطر من خلالها المحامون الإسرائيليون المترافعون عن جيش الاحتلال وجود الدروع البشرية الطوعية الأجنبية التي تجندت لدعم النضال الفلسطيني، إذ زعم المحامون أن كوري وغيرها من ناشطي حركة التضامن الدولية كانوا يحمون أهدافًا عسكرية مشروعة وليس مدنيين، كما صور محامو دفاع جيش الاحتلال المتضامنة كوري على أنها "انتحارية" لأنها وزملاءها الناشطون واجهوا "آلة حرب" و"ذهبوا إلى مناطق إطلاق النار حيث تطلق الذخيرة الحية التي تهدد الحياة".
ليس عرضيًا، اتهام محامي جيش الاحتلال الضحية على أنها "انتحارية"، ولا سيما في الانتفاضة الثانية التي شهدت عدة عمليات تفجيرية "انتحارية" نفذها فلسطينيون في عدة مدن إسرائيلية، في محاولة أراد منها المحامون المطابقة ما بين فعل كوري والفعل "الانتحاري" الفلسطيني في حينه؛ فخطاب الحرب على الإرهاب يمكن أن يحول أي مدني إلى إرهابي، حتى لو تمتع ذلك المدني بامتياز ما، وقرر تبني شكل أنشطة من المواطنة الدولية تضامنًا مع المدنيين المضطهدين. في عام 2012، قبلت المحكمة في حيفا تبريرات الجيش الإسرائيلي، وحكمت على أن موت راشيل كوري كان مجرد "حادث". ولما استأنفت أسرة الضحية على قرار المحكمة بعد ثلاث سنوات لمحكمة العدل العليا، أيدت هذه الأخيرة حكم محكمة حيفا، وكررت الادعاء بأن الدولة ليست مسؤولة عن تعويض المدنيين الذين أصيبوا أو قتلوا في منطقة قتال.
لم تكن المتضامنة الدولية، عائشة نور عزقي إيغي تصنف في استشهادها نهار الجمعة في بلدة بيتا، على أنها درع بشري طوعي، ولكن قتلها يأت في هذا السياق من مواجهة ممارسات الاحتلال في العقدين الأخيرين، فوفق تقرير نشرته صحيفة "هآرتس" مساء أمس السبت، عن ناشطة حقوقية أميركية أخرى شاركت في تظاهرة بلدة بيتا نهار الجمعة ضد البؤرة الاستيطانية "إفياتار" قالت: إن عائشة التي قتلت كانت تقف في مكانها، دون أن تواجه قوات الاحتلال كما لم تشارك بإلقاء الحجارة عليهم، ومع ذلك استهدفت بطلقة نارية في الرأس، مما يعني تقصد أحد قناصة جيش الاحتلال قتلها عمدًا.