استنتج وزير خارجية النرويج، بعد المواقف التي أعلنها رئيس الحكومة الإسرائيلية، في مؤتمره الصحافي الأخير، أن نتنياهو «لا يريد وقف إطلاق النار». يمكن إضافة أنه لا يريد المفاوضات أصلاً. وهو بالتأكيد، لا يشارك أولئك الذين يعتبرون أن صفقة الرهائن ذات أولوية على كل ما عداها. يدفع هذا الواقع (غير المفاجئ أو الجديد بالنسبة إلى رئيس حكومة إسرائيل)، إلى الجزم بأن نتنياهو قد بات أسير معادلة هو نفسه من اشتقها: وقف إطلاق النار الآن، من دون القضاء على المقاومة، يساوي هزيمة كبيرة للكيان الصهيوني، وانتصاراً كبيراً للمقاومة الفلسطينية بشكل عام، ولحركة «حماس» بشكل خاص.أما بالنسبة إلى نتنياهو شخصياً، فهي هزيمة مزدوجة: انهيار صورته كـ«بطل». وهي صورة سعى دائماً إلى غرسها في الأذهان. وخسارة موقعه وحصانته رئيساً للحكومة، والمثول أمام المحكمة متهماً بارتكابات فساد ستقوده، على الأرجح، إلى السجن! يفاخر «بيبي الملك» بأنه هو الأحرص بين رؤساء حكومات كيان العدو، وأنه شغل منصب رئيس الوزراء، وبجدارة، أكثر من أي رئيس وزراء سابق. في السياق، انتقد في مؤتمره الصحافي الأخير «الملك» شارون نفسه، وذكر أنه عارض عام 2005 قراره بالانسحاب من غزة.
انتقد أيضاً الانسحاب من لبنان عام ألفين. حتى «اتفاق أوسلو» البائس، في النص وخصوصاً في التطبيق، فهو يكرّر معارضته له بضراوة وبإصرار. يُضاف إلى ذلك أن نتنياهو يخوض، أيضاً، معركة الانتخابات الأميركية متدخلاً ومؤيداً الرئيس السابق ترامب ضد المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس. وهو يوظّف في نجاح صديقه الذي أعطاه، أثناء ولايته، أكثر مما طلب في الحقول كافة: السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية. إلى ذلك، فترامب هو من سارع إلى إسقاط «الاتفاق النووي» مع إيران الذي رعاه الرئيس الديموقراطي الأسبق باراك أوباما. كذلك هو مَن دفع مشروع التطبيع العربي مع إسرائيل خطوات كبيرة إلى الأمام... في سياق مشروع «صفقة القرن» الذي أطلقه خدمة وتعزيزاً للنفوذ الأميركي والصهيوني في المنطقة.
يمكن الاستنتاج، بشكل شبه أكيد، بأن نتنياهو سيواصل معركته مستحضراً المشروع الصهيوني الأصلي الذي تمتد حدوده «من الفرات إلى النيل» والذي حظي ويحظى بدعم كل الإدارات الأميركية. يساعده في ذلك أنه لا يوجد في قاموس ترامب «حل الدولتين»، وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، بما في ذلك «حق العودة» المكرّس دولياً. لقد تمّ استحضار «حل الدولتين» من قبل إدارة بايدن، للخداع ولمواجهة حملة التضامن الكبيرة مع الشعب الفلسطيني، في الصراع الضاري الراهن الذي أنهى شهره الحادي عشر، هذا اليوم!
يمكن، إذاً، توقّع أن نتنياهو سيواصل المعركة، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، حتى موعد الانتخابات الأميركية في 5 تشرين الثاني القادم. هو، بالتداعي، لن يعطي مرشحة الديموقراطي هدية وقف إطلاق النار لتستغلها في كسب أصوات أكثرية مناهضي حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني.
هل بوسع نتنياهو أن يواصل الحرب لمدة شهرين إضافيين؟
أولاً، لا بدَّ من التأكيد، بأن الجيش الإسرائيلي ومعه أجهزة الأمن، وإن كانا يحبذان، علناً، إبرام صفقة تبادل ووقف إطلاق النار بسبب الإنهاك والخسائر، إلّا أنّهما، لن يجازفا بالتمرّد على نتنياهو طالما أن الإدارة الأميركية تواصل، بسخاء نادر، توفير كل أشكال الدعم الشامل والمتنوع له (والجيش والأجهزة الأمنية أكثر مَن يلمس ذلك)!
ثانياً، هو يتمتع بدعم شامل أيضاً من الحركة الصهيونية العالمية والأميركية خصوصاً. تبدّى ذلك، بشكل استعراضي وصارخ، عبر استقباله وخطابه في الكونغرس الأميركي في 25 تموز الماضي. لا جدال، أيضاً، بأن استمرار التواطؤ الرسمي العربي، المخزي والمعيب، يشجعه على مواصلة حرب الإبادة والتوسّع في جرائمه ضد غزة والضفة الغربية. في هذا الصدد، هو لا يتردّد في التصريح بأن ما يحاوله اليوم قد لا تتكرر شروطه في ما بعد! وما يحاوله هو وضع الفلسطينيين أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما القتل وإما الخروج والهجرة.
سيقود ذلك، في حال نجاحه، إلى ضرب الأساس المادي والبشري لإمكانية نشوء دولة فلسطينية مستقلة، وإلى تصفية حق تقرير المصير، وإلى معاودة إطلاق مشروع «إسرائيل الكبرى»، قاعدة غربية استعمارية للسيطرة والنهب والإرهاب.
ويستطيع نتنياهو وفريقه الفاشي أن يراهنا على دعم أسخى، وغير محدود، من المرشح ترامب في حال نجاحه، أما في حال فشله فالدعم الحالي سيستمر، وربما بوتيرة أعلى: كما كان الأمر دائماً مع كل الإدارات الأميركية!
بالمقابل، ثمة عوامل عدّة، متباينة الخلفيات والأهداف، ستعيق خطته، أولها: المقاومة الفلسطينية العسكرية والسياسية. وهي العامل الرئيسي، حتى الآن، في منع مجرمي الحكومة الصهيونية من تحقيق أهدافهم رغم المجازر الفظيعة والخسائر الهائلة. يمكن القول بثقة كبيرة إن المقاومة ستستمر في مواجهة العدو، وفي إنهاك جيشه، وفي منعه من تحقيق نصرٍ حاسم. الثاني، هو الوضع الداخلي الإسرائيلي. وهو وضع ينوء تحت عبء الانقسامات والصراعات والتشكيك والتطرف النازي والعنصري والتصفوي. يواجه نتنياهو ذلك باستحضار الأهداف الإستراتيجية وبتصوير نفسه شجاعاً حيث يجبن الآخرون.
العامل الثالث، هو «جبهة الإسناد» التي ستكون مطالبة بمزيد من الانخراط في الصراع لإضعاف قدرات حكومة مجرمي الحرب الصهاينة، ولتخفيف المعاناة عن الشعب الفلسطيني.
ثمة مهمات كبيرة أخرى، وبعضها ملح رغم كثرة الصعوبات، لمنع الصهاينة وداعميهم والمتواطئين معهم من تحقيق أهداف حربهم الوحشية. وهي مهمات استنهاضية شعبية، سياسية وعسكرية و... المستهدف ليس الشعب الفلسطيني وحده، بل كل شعوب المنطقة من دون استثناء... وللحديث صلة.
* كاتب وسياسي لبناني