Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

"النصر المطلق" أم الهزيمة الاستراتيجيّة؟

لن ينسف هذا الخذلان أو التواطؤ إلّا ولادة وحدة وطنيّة، وقيادة فلسطينيّة شجاعة وعاقلة، وذات رؤية تحرّريّة، وطنيّة وعروبيّة وإنسانيّة، تستطيع أن تؤدّي دورًا في تثوير العالم العربيّ كما فعلت فلسطين في الثلاثينات، وبعد النكبة...

 

مع استمرار العنف الإباديّ، وتعوّد الناس على مشاهدة تفاصيله الدامية اليوميّة، باتت كلمات أو عبارات مثل "النصر المطلق" المكرّرة على لسان رئيس حكومة "إسرائيل" بنيامين نتنياهو، كليشيهات محنّطة تنطوي على الإصرار على الوحشيّة والقتل والتدمير، ومنزوعة الحساسية تجاه الشقاء الإنسانيّ المتوالد بكثافة على كافّة ميادين الجريمة الكولونياليّة، وخاصّة في غزّة والضفّة الغربيّة. أمّا بالنسبة للمعارضة الصهيونيّة الإسرائيليّة، الّتي تتظاهر في الشوارع، والداعمة لحرب الإبادة، فإنّ "النصر المطلق" ليست إلّا عبارة بلهاء ونكتة سخيفة، في ظلّ العجز عن تحقيق هذا النصر، بعد حوالي العام من الهمجيّة والدعم الإمبرياليّ الغربيّ غير المشروط.

ومع أنّ هذا النقد موجّه أيضًا إلى العديد ممّن يدافعون عن الضحيّة، من المحلّلين، أو القادة السياسيّين، لعدم إعارتهم وزنًا أو حساسيّة كافية لمعاناة ضحايا الإبادة، في تحليلاتهم، فإنّ حديثنا هنا يدور عن نظام الإبادة الصهيونيّ بمجمله، ورأس هذا النظام، بنيامين نتنياهو، عمّا يشكّله من خطر على الإنسانيّة واليهود أنفسهم.

ينظر منتقدو نتنياهو من الإسرائيليّين، وخاصّة عائلات المحتجزين إليه كقائد كذّاب، وفاقد الإنسانيّة، والحساسيّة تجاه حياة الإنسان؛ والإنسان هنا اليهوديّ، باعتباره في نظرهم هو وحده من يحمل خصائص الإنسان الكاملة وليس غيره. كما تتّهمه العائلات وكثير من منتقديه أنّه قاتل ومجرم حرب، وأيضًا ليس كونه قتل أكثر من أربعين ألفًا، وتسبّب في جرح وتعطيل أكثر من مائة وخمسين ألف فلسطينيّ، من الأطفال والنساء، بل لأنّه تسبّب في قتل عدد من الأسرى الإسرائيليّين، في إطار حربه الاباديّة ضدّ هؤلاء "العماليق".

هذا من ناحية، أمّا من ناحية الهدف الاستراتيجيّ الّذي يسعى إليه نتنياهو أي "النصر المطلق" على الفلسطينيّين، فقد بات محطّ تندّر واستهزاء من جانب منتقديه ومعارضيه، الّذين ليس لديهم أيّ اعتراض على المذبحة الّتي يمارسها الجيش الإسرائيليّ ضدّ الفلسطينيّين، ولكنّهم يعتقدون أنّ النصر يمكن أن يتحقّق بطريقة أخرى، تكون أكثر منفعة للمشروع الصهيونيّ الكولونياليّ وإدامته. فالصفقة الّتي يريدها المعارضون ليست إلّا هدنة تمنح الوقت وتتيح لإسرائيل، ولجيشها، الاستعداد لمعركة قادمة وتهيّئها لوضع أفضل من خلال بناء حلف صهيونيّ عربيّ أكثر اتّساعًا وأكثر تماسكًا.

منذ فترة بدأت أصوات متزايدة من المنتقدين تعترف بأنّ إسرائيل تتّجه نحو هزيمة استراتيجيّة، ومنهم جنرالات سابقون ومحلّلون. وما يجري الآن من استمرار الإبادة في غزّة، والسعي التدريجيّ لاستنساخ ما ينفذ في غزّة، إلى الضفّة الغربيّة، والّذي يضع الشعب الفلسطينيّ أمام كارثة مضاعفة، وينذر بتداعيات خطيرة، هو من جهة محاولة لاسترداد الردع، في إطار السعي لترميم "الجدار الحديديّ"، ووقف السيرورة نحو الهزيمة الاستراتيجيّة، ومن جهة ثانية، استغلال الفرصة لتنفيذ أطماع قديمة تتمثّل بالتهجير وإفراغ الضفّة الغربيّة من سكّانها الأصليّين.

إذًا، هذا التوسّع والإيغال في التوحّش، أيضًا يعكس مأزق استراتيجيّة "الجدار الحديديّ" الّتي تعرّضت لضربات جدّيّة في العقدين الماضيين، من جانب المقاومة العربيّة (اللبنانيّة خاصّة) والفلسطينيّة، وكان أحدثها، وأشدّها وقعًا، هجوم ٧ أكتوبر. هذا المأزق يقضّ مضاجع النظام الأمنيّ والسياسيّ والمجتمع الصهيونيّ برمّته، خاصّة بعد أن نشأ حلف عربيّ وإقليميّ (محور المقاومة) يشتبك مباشرة مع نظام الأبرتهايد، مع ما لهذا الحلف وما عليه.

لا تنحصر خطورة نظام الأبارتهايد الإباديّ في شخص نتنياهو، ولا في سموتريتش وبن غفير، بل أساسًا في الأيديولوجيّة الإباديّة الّتي قام عليها، وفي التحالفات الإمبرياليّة المرتبط عضويًّا معها، منذ نشأته، والمشاركة في الإبادة. لكن لا شكّ أنّ شخصيّة نتنياهو أدت دورًا حاسمًا في النقلة النوعيّة اليمينيّة الفاشيّة، الّتي يمرّ بها الحكم والمجتمع في إسرائيل، منذ أواخر التسعينات.

والمفارقة الّتي تواجه نتنياهو، أنّه هذا الشخص الّذي أحدث هذه النقلة المتطرّفة بالمجتمع الإسرائيليّ، وسعى إلى حسم الصراع مع شعب فلسطين، واقترب من إقامة حلف عربيّ خيّانيّ لصالح المشروع الصهيونيّ على كامل فلسطين، ليسجّله التاريخ اليهوديّ كبطل، يصبح الآن القائد الصهيونيّ المتّهم بتعريض إسرائيل لخطر وجوديّ لم تشهده طيلة تاريخ إجرامها.

إنّ مضيّه الأرعن في الحرب الإجراميّة، وعدم اكتراثه حتّى بحياة الإسرائيليّين الأسرى والمحتجزين لدى حركة حماس، لا يجسّد الأيديولوجيّة الصهيونيّة ذات النزعة الاستئصاليّة فحسب، بل أيضًا نرجسيّته المفرطة، والحالة النفسيّة الّتي نتجت عن انهيار عالمه، وادّعاءاته وعجرفته، بعد ٧ أكتوبر.

ولذلك فإنّ سلوكه الحاليّ هو نتيجة اجتماع عقيدته المتطرّفة بخصوص نظرته إلى مستقبل المشروع الصهيونيّ، مع نزعته النرجسيّة، وادّعاءاته بأنّه منقذ إسرائيل. وقد عرف التاريخ الحديث مآسي كبرى؛ بسبب شخصيّات قياديّة اجتمعت فيها هذه الصفات الشخصيّة القميئة، والأفكار الفاشيّة والاباديّة، كألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها. ويستحضر المؤرّخون مصير هذه الشخصيّات، ومصير هذه الأنظمة، وكيف كانت وبالًا على دولها ومجتمعاتها.

ولهذا يحذر من تبقّى من "عقلاء" في الكيان من هزيمة استراتيجيّة، تتجمّع منذ سنين، وتتسارع الآن مقدّماتها، المتمثّلة في تدهور صورة إسرائيل العالميّة وهيبتها العسكريّة واقتصادها، وفقدان مجتمعها الشعور بالأمان في دولة ادّعى مؤسّسوها، أنّها المكان الأكثر أمنًا لليهود، وإذا بهذا المكان هو الأكثر خطورة في العالم عليهم.

إنّ نظامًا عنصريًّا استئصاليًّا غازيًّا، في قلب العالم العربيّ، نظام لم يأت إلى بلادنا ببرنامج تعايش أو إنسانيّ يقوم على المساواة، لا يستطيع أن يواصل العيش على حدّ السيف إلى فترة طويلة، لأنّ أصحاب الأرض لا يستسلمون للظلم والقهر، ويصرّون على الحياة والحرّيّة.

من يتنكّر للعدالة، ويرفض التعايش على أساس القيم الكونيّة، الإنسانيّة، بنفسه يرسم مصيره الّذي انتهت إليه أنظمة شبيهة. إنّ من يطيل أمد هذا الإجرام، علاوة على الدعم الإمبرياليّ الغربيّ، هو غياب العرب وأنظمتهم ومثقّفوها عن المشهد، وانسحابهم من التاريخ، ودخول بعضهم مزبلة التاريخ كحلفاء لهذا النظام الإباديّ.

لن ينسف هذا الخذلان أو التواطؤ إلّا ولادة وحدة وطنيّة، وقيادة فلسطينيّة شجاعة وعاقلة، وذات رؤية تحرّريّة، وطنيّة وعروبيّة وإنسانيّة، تستطيع أن تؤدّي دورًا في تثوير العالم العربيّ كما فعلت فلسطين في الثلاثينات، وبعد النكبة، وكما تفعل الآن على الساحة الشعبيّة العالميّة.