لطالما كانت فكرة السلام بمسار العمل السياسي حلما يراود شعبنا الفلسطيني كما كانت فكرة المقاومة ايضا للوصول الى ذلك ، من باب الإصرار او الأمل او كليهما معا من اجل الخلاص من واقع القهر والاضطهاد المرير الذي عشناه لعقود طويلة على اثر قيام المشروع الاستيطاني الإستعماري في فلسطين . لكن في عمق هذا الحلم ، يبرز سؤال جوهري يتبادر إلى الأذهان ، وهو لماذا توهمنا أننا قد نصل إلى اتفاق سلام ، ونحن نعرف تماما عقلية بنيامين نتنياهو بل عقلية الحركة الصهيونية منذ جابوتنسكي والمجتمع اليهودي الإسرائيلي القائم والمتدحرج في تطرفه وعنصريته ؟
-- تفاؤل مفرط أم تردد في مواجهة الواقع؟
منذ ما فرض علينا من توقيع لأتفاقية أوسلو في عام ١٩٩٣ الذي شابه ادخالنا في نفق غير واضح النهايات الا بما وصلنا اليه اليوم ، او باعتباره مغامرة وفق وصف البعض من القيادة الفلسطينية له ، في ظل واقع من المتغيرات الدولية والعربية ، والذي كان من الممكن ان يشتمل على وضوح اكثر خاصة في موضوع الاستيطان والدولة والأعتراف المتبادل .
لقد تَملكَ القيادة الفلسطينية وان كان هنالك اجتهادات مختلفة ، القناعة بالمضي في هذا المسار الثنائي ، بعد الخروج من مسار مدريد والأنتفاضة الكبرى التي كانت قد حققت انجازات على المستوى الدولي بسلمية مقاومتها الشعبية والحاضنة الواسعة من شعبنا التي ارتبطت بها . وانتقلت تلك القيادة الى نوع من التفاؤل شبه المفرط بأن هذه الاتفاقية اي أوسلو ، ستكون مفتاحا لسلام دائم او خطوة على طريق الدولة رغم جزيئيات قد تحققت اساسها عودة المؤسسات الفلسطينية وبالمقدمة منها منظمة التحرير الى ارض الوطن لكنها كانت وبقيت محاصرة ومكبلة ، وعندما حاول المؤسس الشهيد ابا عمار الخروج عنها دُبر له الحصار والأغتيال وزج بالعديد من القادة الميدانين ومن ضمنهم القائد مروان البرغوثي في سجون الأحتلال .
كانت هناك لدى من وقع أوسلو من القيادة آمال كبيرة في أن التحولات السياسية في إسرائيل ، والتي لم تتحقق ، ستقود إلى قيادة إسرائيلية مستعدة لتحقيق سلام عادل يفضي بنا الى حل الدولتين . ومع ذلك، وبالنظر إلى تاريخ الصراع والمواقف الإسرائيلية المتعاقبة، يبدو أن هذا التفاؤل كان قائما على املاءات او أمل بواقع لم يكن سقفه اكثر مما عرضه شارون لاحقا في عام ٢٠٠٥ ، مما أدى هذا الى تلاشي مبدأ حل الدولتين اليوم بفعل الإصرار الإسرائيلي على التنكر حتى لذلك الاتفاق وما تبعه من اتفاقيات اخرى جرت في ظل ميزان قوى منحاز ، والبدء بالتوسع الاستيطاني والضم والمصادرة وصولا الى ما يجري حاليا من محاولات تنفيذ خطة الحسم المبكر القائمة على الاقتلاع العرقي والتهجير والأبادة الجماعية في غزة وشمال الضفة حتى اللحظة التي من المنتظر امتدادها .
بنيامين نتنياهو، الذي أصبح رمزا للسياسة اليمينية المتشددة في إسرائيل ، يعبر بوضوح عن عقلية لا ترى في السلام مع شعبنا الفلسطيني خيارا حقيقيا ، شأنه شأن الغالبية العظمى من مجتمعهم الاستيطاني ، بل هي عقلية تعتمد على السيطرة الكاملة واستمرار التوسع وتنفيذ الرؤية الصهيونية بل والتوراتية في كل ارض فلسطين التاريخية والإبقاء على التفوق العسكري والأمني والديموغرافي . هذه العقلية لم تكن خافية على أحد ، بل كانت واضحة في خطابات نتنياهو وسياساته ومعتقداته التي جاءت ايضا في كتابه "مكان بين الأمم" الذي ما زال يشكل بوصلته بالعمل . ومع ذلك، استمرت القيادة الفلسطينية بالمفاوضات في سعيها نحو السلام المفترض برعاية أمريكية وحيدة ، ربما بسبب الضغوط الدولية التي ارتبطت بمساعدات مالية ومشاريع غير انتاجية أو الأمل في حدوث تغيير داخلي في إسرائيل ، لكن تلك الضغوط كانت قد أعتمدت ايجاد حلول اقتصادية وامنية غير سياسية .
--الدعم الدولي: حقيقة أم وهم؟
أحد العوامل التي دفعت قيادتنا الفلسطينية وجيلنا وحتى نخبنا الثقافية إلى الاستمرار في هذا الوهم هو الاعتماد المفرط على ما اطلق عليه الدعم الدولي ، او حتى العربي والإسلامي المفترض ، وخاصة من الولايات المتحدة وأوروبا . هذا الدعم كان يُنظر إليه على أنه قوة ضاغطة على إسرائيل لتحقيق تسوية سلمية. ولكن في الواقع، كان هذا الدعم يعتمد سياسات النفاق وازدواجية المعايير ويتذبذب بين تأييد علني منافق للفلسطينيين قائم على سراب الوعود وسياسات ميدانية تدعم إسرائيل بشكل كامل سياسيا وماليا وعسكريا وفق محددات العلاقة بينهم التي انشأت اصلا هذا المشروع الإستعماري كي يستمر ويتقدم ، وترفض منذ البداية تنفيذ حقنا في تقرير المصير وتحصره فقط بما يسمى الشعب اليهودي ، ووصول بعض العرب فيه الى اتفاقيات التطبيع .
كما أن المجتمع الدولي في ظل الهيمنة الأمريكية في قيادة النظام الدولي أحادي القطب لم ينجح في توفير ضمانات حقيقية أو اتخاذ خطوات عملية للضغط على إسرائيل لتنفيذ التزاماتها وفق القانون الدولي او حتى القرارات الأممية الكثيرة . هذا الوضع دفع القيادة الفلسطينية إلى التمسك بأمل غير واقعي في أن الضغط الدولي سيجبر إسرائيل على تقديم تنازلات ، بل بالمقابل فان هذا الضغط المرجو تحول الى ضغوطات على القيادة الفلسطينية .
--التحولات في المجتمع الإسرائيلي ، صعود التيار المتطرف .
المجتمع الإسرائيلي شهد تحولات جذرية نحو التطرف خاصة بعد اغتيال الدولة العميقة لرئيس وزرائهم رابين ، وصعود التيارات اليمينية الدينية والفاشية بشكل اكثر وضوحا . هذه التحولات لم تكن خافية، بل كانت واضحة في نتائج الانتخابات وفي التركيبة الحكومية التي تعاقبت على الحكم في إسرائيل. نتنياهو كان في صلب هذه التحولات، حيث استطاع توجيه المجتمع نحو مزيد من التطرف والانغلاق، رافعا شعار "الأمن أولاً " ورافضا لأي تسوية يمكن أن تؤثر على "أمن" إسرائيل وتفوقها ، باعتبار ان اقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة تشكل تهديد جوهري استراتيجي لهم باقرار كافة الاحزاب الصهيونية في الكنيست الإسرائيلي بذلك .
بعض الفلسطينين في ظل هذه التحولات، قد اخطأؤ في تقديرات الموقف الامريكي الثابت الذي لا يمكن ان بنحاز لقضايا وحقوق شعبنا الفلسطيني لأسباب أولها عقائدية . ولم يدركوا حجم التغيير الحاصل في المجتمع الإسرائيلي، أو ربما فضلوا تجاهله على أمل أن تأتي قيادة اسرائيلية جديدة أكثر اعتدالًا من أمثال جانتس ولبيد اللذان لا يملكان حتى مشروع سياسي لإنهاء الأحتلال والحرب القذرة في غزة ، بل هم معنيون فقط بتحقيق صفقة الأسرى حتى لا تتكرر تجربة رون اراد التي اشارت المقاومة لها في ما نشرته من فيديو ذو تاثير سيكولوجي ناجح ساهم في اتساع مظاهراتهم في شوارع تل أبيب التي تجري باتساع منذ الامس . لكن هذا التجاهل أو سوء التقدير كانت له تداعيات خطيرة، حيث أدى إلى إضعاف الموقف الفلسطيني التفاوضي وجعل من الصعب تحقيق أي تقدم في مسار السلام المفترض على قاعدة وحدة الشعب والأرض والقضية .
--الانقسام الداخلي الفلسطيني: عائق أمام الوحدة .
أحد أهم العوامل التي أدت إلى تفاقم الوضع هو الانقسام الداخلي الفلسطيني على اثر الانقلاب في غزة ، هذا الانقسام أضعف من قدرة الفلسطينيين على تقديم جبهة موحدة وقوية في مواجهة إسرائيل . فالقيادة الفلسطينية لم تستطع التعامل بفعالية مع هذا الانقسام وانهائه، مما أدى إلى تآكل الثقة بين مختلف الفصائل وأثر سلبا على الموقف الفلسطيني الشعبي العام على اثر غياب الانتخابات من جهة اخرى كشكل متقدم لكن ليس وحيدا للديمقراطية والشفافية وفصل السلطات ، الامر الذي أدى الى وصول مؤسسات السلطة الوطنية ومنظمة التحرير كممثل وحيد وشرعي وصاحبة الولاية والمكانة الدولية الى حالة من اتساع فجوة هوة علاقاتها بشعبنا من جهة ، والى الضعف والترهل والاستهداف من جانب الأحتلال من جهة اخرى ، مما اتاح للامريكان والأوروبيون وبعض العرب محاولات فرض ما يسمى بتجديد القيادة الفلسطينية والنظام السياسي ، في ظل تأخر هذه القيادة وعدم اكتراثها بما هو مطلوب وطنيا بهذا الخصوص .
الانقسام لم يكن فقط بين الفصائل الفلسطينية، بل امتد إلى صفوف الشعب نفسه، حيث أصبح هناك تباين كبير في وجهات النظر حول كيفية التعامل مع إسرائيل. هذا التباين أدى إلى تقويض الجهود الرامية إلى بناء استراتيجية وطنية شاملة قادرة على مواجهة التحديات الإسرائيلية من خلال الإصرار على مبدأ احتكار المعرفة وممانعة الشراكة وعدم تقبل الرأي الاخر في اطار الوحدة ، وإلى وجود ضغوطات خارجية تحول دون ذلك .
--السياق الإقليمي: تعقيدات إضافية.
لا يمكن الحديث عن التفكير الفلسطيني بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي . الدول المجاورة مثل الأردن ومصر، وكذلك القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا، كلها لها مصالحها الخاصة في هذا الصراع تسعى الى تحقيقها . الأردن ومصر يسعيان إلى الحفاظ على استقرار حدودهما مع إسرائيل وضمان أمنهما القومي واستقرار أوضاعهما ومصالحهما الإقتصادية الاخرى . في حين أن تركيا وإيران تسعيان إلى تعزيز نفوذهما الإقليمي من خلال دعم اطراف فلسطينية، بما يخدم مصالحهما الخاصة ومشاريعهم بالمنطقة وفق علاقات متفاوتة مع حركة الاخوان المسلمين التي عبثت باستقرار المجتمعات العربية ، وتقاطعات مع الولايات المتحدة من جهة اخرى التي لا تقبل بدولة فلسطينية ذات سيادة .
السعودية، بدورها، تلعب دورا مركزيا في مسار القضية الفلسطينية، لكنها تواجه تحديات كبيرة في تحقيق توازن بين هذا الدعم وبين تطلعاتها الإقليمية والسياسية في مواجهة إيران ، رغم المصالحة التي رعتها الصين بينهما. هذا التعقيد الإقليمي جعل من الصعب على الفلسطينيين الاعتماد على دعم ثابت ومستقر من جيرانهم حتى بالشأن المالي وبعدم رغبة هذه الدول في مواجهة سياسات الإدارات الامريكية المتعاقبة وتحديدا خطط التطبيع والدخول في مواجهة معها ، مما أضاف تحديات جديدة أمام إمكانية تحقيق السلام وفق المبادرة العربية التي اكل نتنياهو وشرب عليها كما الظروف الناشئة .
-- إعادة النظر في المسار .
ربما حان الوقت لإعادة النظر في شمولية التفكير الفلسطيني حيال عملية السلام المفترضة ، فالوهم الذي تملكه بعض الفلسطينيون بإمكانية التوصل إلى سلام مع إسرائيل وفق قواعد اخذه بالانهيار من جانب ، وشكل المقاومة القائم في ظل المعطيات الحالية لمجموعات قد تبدوا غير مترابطة ضمن رؤية متكاملة ، لكنها شجاعة وباسلة الا انها لن تؤثر بالشكل المفترض على واقع ميزان القوى الذي أشرت له ، بما يوفر بالواقع لدولة الأحتلال مساحة لمزاعمها امام العالم في محاربة "الإرهاب" لكتائب عسكرية مرتبطة بقوى إقليمية في غياب الدعم الرسمي الفلسطيني حتى لفكرتها . هذا الواقع الممتد يجب أن يخضع لمراجعة جادة تخدم صمود شعبنا وبقائه فوق ارضه كشكل من المقاومة التي هي حق مشروع لكل الشعوب التي تخضع لاي احتلال . كما يجب ان تخضع ايضا تجربة السابع من أكتوبر وما بعدها رغم ما شكلته من هزة وازمة عصفت بإسرائيل وتحديدا في نظرياتها الأمنية والسيكولوجية الاجتماعية والإقتصادية وخلقت تضامن دولي شعبي غير مسبوق لاحقا مع شعبنا للمراجعة بنفس القدر من اهمية مراجعة مسيرة العمل السياسي منذ أوسلو من جانب اخر ليكون شكل المقاومة واسلوبها مكلفا للاحتلال فقط في اطار مقاومة شعبية واسعة ونوعية . يجب أن تكون هناك استراتيجية جديدة موحدة ومتكاملة تتعامل مع الواقع الإسرائيلي والإقليمي بواقعية سياسية تتسم بالوضوح ، وتعتمد على تعزيز الوحدة الداخلية وتحقيق الاستقلالية الوطنية في اتخاذ القرار نحو رؤية وبرنامج كفاحي بعيدا عن التأثيرات الخارجية في هذه المرحلة من التحرر الوطني .
السلام قد يكون حلماً مشروعا، ولكن لتحقيقه، يجب أن نكون واقعيين ومتمسكين بثوابت حريتنا في فهمنا للتحديات التي نواجهها ولكافة الظروف المحيطة، ونبني على هذا الفهم استراتيجيات جديدة قادرة على مواجهة التحديات وتحقيق أهدافنا الوطنية السياسية . فهل نستطيع التفكير خارج اطار الصندوق لحماية شعبنا والوصول به الى حقوقه وإنهاء الأحتلال اولاً من خلال وضع الخيارات اللازمة أمامنا ودراستها حتى نحدد التوجهات والاشكال المناسبة للخروج من هذه الحالة التي ينعدم بها الأفق السياسي وتختلط بها الأجندات .