بعد قراءة كتاب الأسير الشهيد وليد دقة «صهر الوعي»، الصادر عام 2010، كان من الطبيعي ربط الأحداث النظرية التي تحدّث عنها الأسير، قبل سنوات عدة، بما يجري حالياً في غزة من إبادة جماعية، وبما يحاول الاحتلال من خلاله ترهيب الفلسطينيين واللبنانيين عبر إطلاقه التهديدات تجاه لبنان، من قبيل إعادته إلى العصر الحجري، أو دعوة اللبنانيين إلى الاتعاظ من نموذج غزة، أو بما يمارسه في الضفة من قتل وتدمير في مخيماتها. ذلك أن الأسير دقة كشف في هذا الكتاب، مفهوم الإبادة الذي مارسه الاحتلال على الشعب الفلسطيني، وفقاً لمعيار ما مارسه السجّان الإسرائيلي في السجون.
واقع تجربة الأسر الطويلة مكّنته من ربط ما اعتبره «تطابقاً بين إجراءات الاحتلال هناك، مع ما يجري هنا في السجون الإسرائيلية، التي هي المختبر الذي يتم من خلاله اختبار السياسات التي تستهدف الحالة المعنوية والاجتماعية الفلسطينية».وإذا كان الاحتلال الإسرائيلي عنصرياً، فهو، من وجهة نظر الأسير دقة، لا يهدف فقط إلى ممارسة أعمال تمييزية لمصلحة الصهيوني على حساب الفلسطيني، بل لتحقيق هدف أساسي ألا وهو «إعادة صهر الوعي الفلسطيني بما يتسق ومشروع الدولة العبرية» وهي ليست عنصرية منفلتة، بل منظمة تقف وراءها المؤسسة الإسرائيلية برمّتها، وتستهدف الشعب الفلسطيني، إدراكاً منها أن «المشكلة الحقيقية ليست مع القيادة الرسمية والمفاوض الفلسطيني، وإنما مع الشعب الفلسطيني الذي يرفض سقف الرؤية الإسرائيلية للحل، ويبدي استعداداً للمقاومة بما يجعله رافد الفصائل المقاومة من المقاومين لا ينضب، ويحول أي إمكانية للتسوية مع المفاوض الفلسطيني إمكانية مستحيلة التطبيق».
ويخلص الأسير دقة في كتابه إلى أن الاحتلال يمارس ما سمّاه «إبادة سياسية» لا تستهدف الجسد فقط في السجون، بل «إن صح التعبير، الروح عبر إبادة ثقافية وحضارية»، تستهدف العقل والروح الفلسطينية.
هذه التجربة التي قدمها الأسير دقة وعايشها في الأسر، تفسّر بما لا يدع مجالاً للشك ما يقوم به الاحتلال الإسرائيلي من تدمير مادي وروحي في غزة، من إبادة جماعية طالت البشر، وتدمير ممنهج لم تسلم منه الجامعات والمدارس والمتاحف، وغيرها من البنى الثقافية التي يهدف الاحتلال من خلالها إلى صهر الوعي الفلسطيني، عبر كسر إرادة الشعب وروحه، بصدمة لم نرَ مثيلاً لها منذ الحربين العالميتين.
هذه الصدمة كانت الوسيلة التي أراد الاحتلال من خلالها تشكيل الوعي الفلسطيني من جديد عبر مسح الذاكرة الجمعية الفلسطينية التي تتعلق بقيم التحرر والمقاومة، نحو ملاحقة الهم اليومي من الطعام والشراب والدواء، والبحث عن المناطق الآمنة، والإيواء في خيمة. ليعايش الفلسطيني، من جديد، تجربة اللجوء والتهجير المؤلمة التي عايشها أجدادنا وآباؤنا في فلسطين في الـ48 والـ67، وليزرع في عقل الفلسطيني الثمن الباهظ الذي سيجبيه منه في حال قاوم. وهنا نعود إلى الأسير دقة مجدداً: «لقد عنت المؤسسة الإسرائيلية في البداية بعملية صهر الوعي إلى جعل فكرة المقاومة فكرة مكلفة عبر هدم البيوت والقتل والتدمير الواسع... إن أي مقاومة بحاجة إلى بنية تحتية مادية ومعنوية، والجيش الإسرائيلي بإجراءاته التي استهدفت البنية التحتية المادية للمقاومة، يبتغي الوصول إلى نقطة صهر الوعي».
هذا النموذج الغزي من التدمير والإبادة والتهجير، بثته مختلف وسائل الإعلام، على اختلاف توجهاتها. ولقد نجح الاحتلال من خلاله برفع أسهم الأصوات المناوئة أو الخصمة أو المعادية لثقافة المقاومة؛ بعدم جدوى المقاومة جراء الأكلاف الباهظة، بل الأفضل والأجدى هو إيجاد السبل كافة لتجنب الحرب، وخصوصاً في ظل التهديدات التي يطلقها الاحتلال تجاه الضفة الغربية ولبنان، وصولاً إلى اليمن وإيران.
ولقد أسهم الصمت العربي الرسمي، والشعبي للأسف، عبر ترك غزة وحيدة وجهاً لوجه مع أعتى جيش مدجج بالسلاح الغربي، وما تعرضت له من مجازر مستمرة، في ترسيخ هذه الصورة، وحشر محور المقاومة في إطار المغامر، أو القيام بعملية إسناد غير محسوبة النتائج على الشعوب، وخصوصاً في الضفة الغربية ولبنان، واليمن وإيران، ما يفرض على المقاومة نظرياً حسابات كثيرة.
هذه الممارسات، التي أريد من خلالها بث الرعب والخوف في صفوف الشعب الفلسطيني في غزة وتشكيل وعي جديد، لم تفلح في كسر روحه، والتخلي عن مقاومته، رغم كل ما يمكن للإنسان أن يتخيله من دمار وقتل أصاب الغزيين، طوال الأشهر الماضية. فكل محاولات الاحتلال لإيجاد بدائل عن المقاومة في غزة فشلت، بل إن المقاومة التي أنهكت جيش الاحتلال، باعتراف وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، قصفت منذ مدة وجيزة تل أبيب، بعد أشهر عشرة من احتلال غزة، وأعادت تشكيل قواتها، وكيّفت طرق مواجهتها للاحتلال، عبر رفدها بالمزيد من الشباب الغزيين الذين انضموا إلى صفوف المقاومين.
وفي قياس مع فارق الأحداث في الضفة، فإن ممارسات الاحتلال في مخيمات شمال الضفة الغربية، وتدمير البنية التحتية وهدم المنازل في المخيمات التي يتصدّى فيها مقاومون لاقتحامات قواته، مثل مخيم جنين وطولكرم وطوباس، تهدف إلى تطبيق نظرية صهر الوعي على الأهالي، فكان الرد صارخاً عبر نموذج أهالي طولكرم، الذين توافدوا بالعشرات واقتحموا مستشفى ثابت ثابت، وأخرجوا قائد كتيبة طولكرم في «سرايا القدس» محمد جابر، الملقب «أبو شجاع»، أثناء وجوده في المستشفى للعلاج من إصابة، محمولاً على الأكتاف وسط هتافات مؤيدة للمقاومة، بعد محاولة أمن السلطة اعتقاله خلال محاصرة المستشفى.
هذا المفهوم الذي فشل في غزة والضفة، يحاول الاحتلال، بطريقة أو بأخرى، أن يجد له أرضية في لبنان واليمن وإيران، عبر بثّ رسائل التهديد والوعيد عن أثمان باهظة ستتكبدها تلك الدول وشعوبها في حال ردّت على جرائم اغتيال قادة المقاومة فؤاد شكر وإسماعيل هنية، فهل ستنكفئ تلك الدول كما يشكّك البعض؟... الأيام كفيلة بالإجابة عن هذا التساؤل.
* إعلامي فلسطيني