لم تتغير الأهمية الإستراتيجية للضفة الغربية في مفهوم الأمن " الإسرائيلي" وهي كانت تنتظر ان تحقق الإنتصار في قطاع غزة وان تملي شروط وقف إطلاق النار وصفقة تبادل الأٍسرى،ومن ثم تخرج الى عملية " تعقيم" الضفة والقدس ..ولكن ما سّرع في نقل ثقل المعركة من القطاع الى الضفة الغربية،هو عدم القدرة على تحقيق الإنتصار والغوص في مستنقع قطاع غزة،وكذلك عدم القدرة أيضاً على فرض شروط التفاوض ودفع المقاومة وحاضنتها الشعبية للقبول بها،رغم كل الحرب التوحشية التغولية المسكونة بعقلية ثأرية إنتقامية ،ولعل ما عجل في قرار الحرب العدوانية على الضفة،هو فشل استعادة الردع على الجبهة الشمالية،وخاصة بعد عملية الأربعين التي قام بها حزب الله في 25/آب/2024 ثأراً لإغتيال القائد فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية،حيث كان الرهان على توسيع الحرب على تلك الجبهة واستعادة قوة الردع،ولكن عملية ثأر الأربعين،قضت على أمال قادة " اسرائيل" عسكريين وسياسيين في تحقيق ذلك،وتحويل الحرب الى حرب اقليمية يجري توريط امريكا فيها،فالقيادات "الإسرائيلية التي طوال أحد عشر شهرا تتهدد وتتوعد وتهول وتضخم،بأنها ستعيد لبنان الى العصر الحجري وبأنها ستمحى الضاحية الجنوبية عن الخارطة،وستشن عملية برية تعيد حزب الله الى شمال نهر الليطاني،وستتمكن من اعادة الأمن الى الشمال واعادة سكان المستوطنات المهجرة،ولكن وجدنا بأن تلك القيادات العسكرية والسياسية منها تلتقي حول الروح الإنهزامية،وباتت تتحدث عن عدم التصعيد والتهديد بالحرب الشاملة ،وبأن الحرب مع حزب الله ستستمر دون التهديد بالحرب الشاملة او العملية العسكرية الواسعة..أي ان مفردة الحرب والتهديد بها قد سقطت،ولم تكن اكثر من تضخيم وتهويل نفسي ومعنوي.
ولذلك عجل هذا في الخروج الى العملية العسكرية " التعقيمية" في الضفة الغربية،من أجل "اجتثاث" قوى المقاومة وتصفية وجودها،ووضع مشروع الطرد والتهجير على الطاولة ،وتنفيذ مشروع الضم والتهويد و"الهندسة الجغرافية" و" الديمغرافية"،ومقايضة ضم الضفة الغربية والسيطرة عليها بتطبيق وقبول اتفاق القطاع،وهذا يعني بان السلطة الفلسطينية التي تترنح وكانت طوال الوقت تعتقد انها حاجة "اسرائيلية" لم يمكن الإستغناء عنها،بات المطلوب رحيلها.
"اسرائيل" سابقاً قامت ب"بروفات" عمليات عسكرية اقتحامية لجنين ومخيمها وطولكرم ومخيماتها ...مارست التدمير للطرقات والبنتى التحتية واغتالت وصفت واعتقلت ،ولكن هذه المرة العملية العسكرية في معالمها وخطاها تشبه العملية العسكرية التي شنت على قطاع غزة من حيث شكلها ومضمونها،فالإستهداف أوسع واشمل من جنين وطولكرم والمخيمات،بل يتعدى ذلك الى طوباس وقلقيلية ونابلس ومخيماتها،وحجم التدمير والتخريب كبير جداً للطرقات والشوارع واستهداف شبكات المياه والصرف الصحي ومحولات الكهرباء وخطوط الإتصالات وصولاً الى حصار المشافي والقيام بعمليات الطرد والتهجير،أو ما يسمى بالترحيل المؤقت،ولا يوجد في عرف الحركة الصهيونية على مر تاريخها اخلاء مؤقت،بل طرد وتهجير دائمين الى خارج حدود فلسطين.
من خلال هذه الحملة العسكرية الشرسة التي سماها الإحتلال ب" مخيمات الصيف"،والمقصود هنا بأن تلك العملية ستكون نزهة أو "شمة هواء" ،او ربما الهدف الموارب استهداف مخيمات شمال الضفة،في حين سمتها المقاومة وفصائلها بعملية "رعب الصيف"،وواضح بأن تتطابق جغرافية العدوان تماما مع خارطة مخطط الاستيطان في شمال الضفة الغربية والاغوار الشمالية الأقل كثافة من حيث الاستيطان والاكثر كثافة فلسطينيا، وهي المناطق المخطط لها ان تكون غير قابلة لحياة الفلسطينيين وقابلة تماما لحياة المستوطنين وفقط لهم. ضمن اعتبار اسرائيلي بأن الاستيطان لن يتحقق في هذه المناطق إذا لم يتم القضاء على اية مقاومة واذا لم يتم إجراء تغيير سكاني جوهري فيها.
سمويترتش يغرق الضفة بالمستوطنين والمستوطنات ،مليون مستوطن،ويضم كامل المنطقة" سي" ،60% من مساحة الضفة الغربية،ويضيف لها منطقة"بي"،بعد نزع الصلاحيات المدنية للسلطة في تلك المنطقة ،ويقوم بعملية هدم واسعة للمنازل الفلسطينية في تلك المنطقتين،وبن غفير يتولى الحرب الشاملة على مدن وبلدات وقرى الضفة الغربية،عبر جيشه من المستوطنين،يقتل ويجرح ويحرق ويسرق محاصيل واغنام ويقطع طرقات ويشرد ساكنين ويقيم بؤر استيطانية ويستولي على اراضي،جيش وقوات أمن تقوم بحرب الإغتيالات والتصفيات والإعتقالات والتدمير الممنهج لكل مظاهر الحياة والبنى المدنية،بما فيها الترحيل القسري،وكل ذلك لإحداث" الهندستين الجغرافية" ،بالإستيلاء على اكبر مساحة من الأرض وابقاء اقل عدد من السكان الفلسطينيين،و"الديمغرافية"،بطرد جزء من سكان الضفة الغربية،وخاصة المنطقة الشرقية منها للأردن،ومن يتبقى من الفلسطينيين،يتم حشره في معازل وجزر متناثره في محيط اسرائيلي واسع،لتحقيق " الهندسة" الديمغرافية"،ومنع ان يكون ما بين النهر والبحر اغلبية فلسطينية،ونشوء أي شكل من اشكال الكيانية الفلسطينية تؤدي الى قيام دولة فلسطينية.
هذه الحملة والهجمة المسعورة تترافق مع هجمة شرسة على القدس والمقدسات وفي المقدمة منها المسجد الأٌقصى،لحسم السيادة والسيطرة عليهما ،حيث عمد بن غفير وزير ما يعرف بالأمن القومي الإسرائيلي الى تولي ملف تهويد الأقصى،ونزع القدسية الإسلامية الخالصة عنه،معتبراً اياه ،هو وطيف واسع من القوى المتطرفة الصهيونية، أنه اقدس مكان لليهود،ولذلك منذ توليه الوزارة في بداية عام 2023،قام بأول عمليات اقتحامه للأقصى معلناً،بان بداية العبور بالمسجد الأقصى من زمنه الإسلامي الى زمنه اليهودي قد بدأ،ويجب توظيف كل الأعياد الدينية والمناسبات القومية اليهودية لهذا الغرض، ورصد الأموال التي تمكن من تحقيق هذا الهدف ،حسم السيطرة العقائدية الدينية على الأٌقصى،وفي ظل ردات الفعل العربية والإسلامية،التي لم تغادر خانة " الجعجعة" الكلامية ولازمة الشجب والإستنكار المخزية على عمليات اقتحام بن غفير والجماعات التلمودية التوراتية المتطرفة للأقصى،والسعي للذهاب في عملية التهويد للأقصى أبعد من عمليتي التقسيم الزماني والمكاني الى ايجاد حياة وقدسية يهودية فيه،تجعل المكان مقدس مشترك في مرحلته الأولى إسلامي- يهودي،مقابل الشيخ المسلم حاخام يهودي ومقابل المصلي المسلم مصلي يهودي ومقابل الطفل الفلسطيني طفل يهودي.
استمر بن غفير في عمليات اقتحامه للأقصى مع المتطرفين من وزراء واعضاء كنيست وحاخامات دون ردع،ومهادنة عربية واسلامية،وليرى بأن الفرصة مؤاتية من بعد معركة السابع من اكتوبر/2023 لترجمة مشاريعه لفرض الحسم العقائدي الديني في الأقصى،حيث عمد في الثالث عشر من آب / 2024،ذكرى ما يعرف بخراب الهيكل الى القيام بأوسع عملية إقتحام للأقصى بمشاركة وزير حزبه يتسحاق فسرلاوف وعضو الكنيست الليكودي عميت هليفي،وأكثر من 2258 متطرف،وادوا كل الطقوس المتعلقة بإستكمال الهيكل المعنوي من سجود ملحمي ورفع علم " اسرائيل" وعلم الهيكل والدخول بلباس الكهنة البيضاء والنفخ في البوق واداء الصلوات والطقوس التلمودية والتوراتية فرادى وجماعة ومحاكاة ادخال قربين الفصح الحيوانية للأقصى وغيرها من طقوس احياء الهيكل المعنوي،رافعاً شعار " تجديد البيعة لبناء الهيكل" وراداً على شعار طوفان الأقصى بطوفان الهيكل ،لتأكيد السيادة والسيطرة على الأقصى .
لم يثر ما قيام به بن غفير ولم يحرك أية مشاعر لا رسمية ولا شعبية عربية واسلامية،واستمر مسلسل " الجعجعة" الكلامية والمطالبات لشريك دولة الإحتلال في عدوانها على شعبنا الفلسطيني امريكا ومعها قوى الغرب الإستعماري والمجتمع الدولي بالتحرك لمنع "اسرائيل" من الإستمرار في مشاريع تهويد الأٌقصى،وبما يدفع المنطقة لتصعيد غير مسبوق أو ما يعرف بكذبة الصراع الديني ، لم يأبه بن غفير ولا حكومته الموزعين للأدوار بينهم،بمثل هذه التحركات الفارغة والردود " الجعجعية" العربية والإٍسلامية ،ويتقدم خطوة اخرى على طريق الحسم العقائدي الديني لمصير الأقصى والشروع في خطوة بناء الهيكل بشكل عملي،حيث أعلن بعد ذلك بيومين نيته اقامة كنيس يهودي في قلب الأقصى بدل مصلى باب الرحمة،لفرض السيطرة على ثلث مساحة المسجد الأقصى ،واتبع ذلك وزير ما يعرف بالتراث "الإسرائيلي" عميحاي الياهو،ومن دعا الى قصف قطاع غزة بالقنبلة النووية،عن تمويل جولات استيطانية توراتية في الأقصى من وزارته بقيم مليوني شيكل "500 " الف دولار امريكي،تستهدف عشرات ألآلاف المصلين اليهود والزوار الجانب،يتم فيها تدعيم مكانة البلدة القديمة في القدس ،كمدينة يهودية،وتقديم رواية وسردية تاريخية يهودية نقية خالية من رواية النقيض العربي- الإسلامي ،بما يؤكد على الشراكة ما بين الحكومة والجماعات الإستيطانية في تكريس تهويدها للأٌقصى.
بن غفير يستعد للخطوة القادمة لفرض الحسم العقائدي الديني في الأقصى،بذبح واحدة من البقرات الخمس الحمراء التي تم احضارها من ولاية تكساس الأمريكية،في ساحات الأقصى ،ونثر رمادها على أكبر عدد من الحاخامات للتطهر من بند نجاسة الموتى،بما يتيح التحرر من فتوى الحاخامية الكبرى،بعدم الصعود لجبل الهيكل " الأقصى" دون تحقيق بند التطهر ،وبذلك سنكون أمام " تسونامي" من المتطرفين في قلب الأقصى بشكل يومي،ما بين 1000 – 1500 متطرف يومياً يفرضون واقعاً جديداً في الأقصى .
هي حرب الحسم العسكري والأمني في الضفة الغربية والحسم العقائدي الديني في القدس،والتي يقف في مواجهتها شعب فلسطين ومقاومته ومعهم مروحة من محور المقاومة ايران كدولة وقوى وحركات المقاومة العربية لبنانية ويمنية وعراقية،وشعوب رغم طول نومتها والتي جاوزت نوم أهل الكهف،نثق بأنها في طريقها للصحوة،وانظمة رسمية عربية ستكشف بان مهادنتها وتماهيها مع المشاريع الأمريكية والغربية الإستعمارية،لن يضمن لها الحماية والبقاء وعدم السقوط.
فلسطين – القدس المحتلة