تتسارع الأحداث التي تصبّ في اتجاه مواجهة شاملة يخوضها الغرب عامة -بقيادة الولايات المتحدة- ومعه الكيان الصهيوني، وذلك ليس في غرب آسيا فحسب، بل في شرق أوروبا، وفي مرحلة لاحقة في شرق آسيا. إجراءات الولايات المتحدة في إرسالها طائرات أف 16 التي تحمل رؤوساً نووية إلى الدول المجاورة لروسيا، إضافة إلى تموضع الرؤوس البالستية، تنذر بأن المواجهة مع روسيا قادمة وقد تكون حتمية بغض النظر عمّا سيحصل في أوكرانيا للجيش الأوكراني والدولة والشعب.
فزيارة نتنياهو إلى الكونغرس الأميركي كانت منسّقة مع الدولة العميقة في الولايات المتحدة لطرح ضرورة المواجهة الشاملة مع الجمهورية الإسلامية في إيران ومع من يقف معها من قوى إقليمية كفصائل المقاومة وسوريا واليمن والعراق، ومن الدول الكبرى كروسيا والصين. البعد العقائدي الذي أعطاه نتنياهو لخطابه كان ترجمة وانعكاساً مباشراً لتوجّهات داخلية في الدولة العميقة التي وصلت إلى قناعة أنه لا بد من مواجهة كبيرة، خارجية مع عدو وداخلية مع قوى معارضة لتوجّهاتها، لفرض رؤيتها على الداخل الأميركي والعالم أجمع. بالنسبة إلى البعد الداخلي، بدأ هذا التوجّه في عهد باراك أوباما حيث أطلقت إدارته الحرب على «التطرّف» وضرورة اصطفاف كل مكوّنات المجتمع الأميركي حول السردية التي تطلقها الدولة العميقة عبر أداتها الإدارة الأميركية. والخطاب السياسي لهيلاري كلينتون كان اتهاماً لمن يخالفها من «المنبوذين»، أي أنصار دونالد ترامب. أمّا الرئيس جوزيف بايدن، فاعتبر أن كل مَن يناهض سياسة الإدارة هم من المتطرّفين. فبعد «الحرب على الإرهاب» التي أطلقها جورج بوش الابن كانت الحرب على «التطرّف» التي تشكّل قاعدة الخطاب السياسي الأميركي للنخب الحاكمة وخاصة داخل الدولة العميقة.
ومن مؤشرات التوجّه نحو حرب كبيرة، تبنّي الدولة العميقة -رغم تصريحات مغايرة لذلك لدى بعض المسؤولين وذلك من باب رفع العتب وليس لشيء آخر- لما أقدم عليه نتنياهو باغتيال فؤاد شكر وإسماعيل هنية. عنوان التدخّل الأميركي الذي يُراد ترويجه هو «الدفاع» عمّن يحمل القيم الغربية في مواجهة «البربرية» كما جاء على لسان نتنياهو في خطابه في الكونغرس الأميركي في شهر تموز/يوليو الماضي.
الدوافع الاقتصادية
لكن الدوافع الأميركية أعمق من ذلك، فهي اقتصادية بالدرجة الأولى، حيث الوضع المالي الأميركي يواجه ضغوطاً كبيرة تنذر بالانهيار الكامل بعد تراجع الدولار من جهة، ولكن بالأساس بسبب ضعف الاقتصاد العيني وتراكم الدين العام والخاص. فأمولة (financialization) الاقتصاد الأميركي عبر إعادة توطين القاعدة الإنتاجية خارج الولايات المتحدة وعبر الارتكاز إلى الدين لتمويل الحروب والنفقات العسكرية وارتفاع أسعار الأصول الثابتة والسائلة كالأسهم والسندات كمصدر لثروة افتراضية أدّى إلى اختلال بين حجم الدين العام والخاص وإمكانية التسديد التي تتطلّب اقتصاداً عينياً فاعلاً وفعّالاً. وهذا غير متوافر في الظروف الحالية وليس في الأفق ما يبشّر بتغيير ذلك إلّا دعوات ترامب لإعادة توطين القاعدة الإنتاجية في الولايات المتحدة بدلاً من الخارج، وهذا ما تعارضه النخب المعولمة داخل الدولة العميقة.
وإذا أضفنا إلى حجم الدين العام الخسارات الافتراضية لقطاع المشتقات المالية التي تتجاوز 4 آلاف تريليون دولار (أرقام فلكية بالفعل!) فإن هناك ضرورة لإعادة تعيين الاقتصاد الأميركي (reset) ليس بمفهوم منتدى دافوس، بل عبر الاستيلاء على ثروات دول كأوكرانيا وروسيا ودول غرب آسيا. لذلك، هشاشة الوضع المالي قد تؤدّي إلى انهيار أكبر مما حصل في 2008 ودون الحصول على تمويل الدول العربية والصين. فالتعويم الذي حصل كان للمؤسسات المالية وليس لتنشيط الاقتصاد، ما طمأن المنظومة المالية الحاكمة للاستمرار في ممارسة المضاربات العبثية التي قد تطيح بما تبقّى من اقتصاد وتهدّد تماسك المجتمع والكيان السياسي الأميركي.
وتصريح الشيخ الجمهوري ليندسي غراهام أفصح عن الهدف الفعلي لتدمير الدولة الأوكرانية والحرب على روسيا عبر توريطها في مواجهة غير متكافئة مع روسيا: الاستيلاء على الثروات في جوف الأرض الأوكرانية التي تقدّر بأكثر من 12 تريليون دولار، والتي لا يجوز تركها لروسيا على حد قوله! وهدف «إضعاف روسيا» عبر استنزافها في حرب طويلة في شرق أوروبا هو لقلب النظام والمجيء بنظام تابع وخاضع للإملاءات الأميركية للاستيلاء على الموارد كالطاقة والمعادن والأراضي الزراعية. هذه الثروات قد تساعد في إعادة تعيين الاقتصاد الأميركي المهدّد بالإفلاس المالي. هذا يعني أنه حتى مع هزيمة الجيش الأوكراني وتدميره، وربما زوال الكيان الأوكراني، فإن المواجهة العسكرية مع روسيا مستمرّة.
هناك ضرورة لإعادة تعيين الاقتصاد الأميركي ليس بمفهوم منتدى دافوس، بل عبر الاستيلاء على ثروات دول كأوكرانيا وروسيا ودول غرب آسيا
كذلك هو الأمر تجاه إيران، حيث الهدف الأميركي هو قلب النظام والمجيء بطبقة سياسية تتماهى مع أهداف الولايات المتحدة. إيران حجر زاوية في مواجهة الصين لأنها مصدر الطاقة للاقتصاد الصيني، وبالتالي مواجهة واحتواء الصين يتطلّبان السيطرة على إيران. لذلك، تصبح الحرب الحلَّ بالنسبة إلى الدولة العميقة خاصة إذا ما جرت تلك الحرب خارج الولايات المتحدة كما حصل في الحربين العالميتين السابقتين والحروب الأخرى كفييتنام وأفغانستان والعراق.
هذه القراءة تصطدم مع التسريبات الأميركية والمروّجين لها أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى حرب إقليمية في غرب آسيا بينما هناك سكوت حول المسرح الأوكراني.
في رأينا، من الصعب تصديق هذا الكلام لأن كل ما تقوم به الإدارة الأميركية هو لدعم فعلي للعمل العسكري الصهيوني والإقدام على الإبادة الجماعية. فلم توقف شحنات السلاح والذخيرة للكيان رغم ادعاءاتها بإقناع نتنياهو وحكومته بالدخول في مفاوضات تفضي إلى وقف إطلاق النار. وتلعب الإدارة على عنوان «وقف» إطلاق النار دون تحديد حيثياته وآلياته والتي لا تتضمن عودة الكيان الصهيوني إلى العدوان لتحقيق هدفها الإستراتيجي أي تهجير الفلسطينيين، ليس من غزّة فحسب بل من البحر إلى النهر أو إبادتهم. وليس هناك موقف أميركي يكبح هذا الهدف بل ربما هناك تشجيع لنتنياهو الذي يحارب «البربرية» نيابة عن الغرب! ويمكن القول إن الإدارة الأميركية لا تردع بل تشجّع الكيان فهي التي تدير الحرب بالعقل نفسه الذي تدير به الحرب في أوكرانيا.
هناك حالة إنكار لموازين القوّة في الميدان وإنكار أن الهزيمة حتمية في أوكرانيا وفي فلسطين. لكن الآلة الإعلامية الهائلة التي تملكها تمكّنها من تسويق أي سردية وإن كانت مخالفة للواقع وهذا ما تراهن عليه لإقناع الدول العربية «الحليفة» بالالتحاق بمشروعها في مواجهة إيران ومحور المقاومة.
موازين القوى والسلاح غير التقليدي
الاستعصاء في حسم المعركة بالنسبة إلى الكيان في غزّة ومجمل غرب آسيا وعجز الولايات المتحدة عن تغيير مسار الحرب في أوكرانيا، أسهما في ترويج سردية اللجوء إلى السلاح غير التقليدي الذي يقلب الموازين العسكرية القائمة. وهذا الكلام صادر عن تقارير استخباراتية أميركية على علاقة وثيقة بأحد المسؤولين في الكيان (بني غانتس) الذي أفاد بأن حكومة الكيان فكّرت بشكل جدّي باللجوء إلى ضربة استباقية على إيران وقصفها بالسلاح النووي. غير أن ما ردع حكومة الكيان، على حد تلك التقارير، هو الإنذار الروسي الذي وصل إلى حكومة الكيان بأن أي اعتداء على إيران هو اعتداء على روسيا. لكن ليس من المعروف إذا ما كان «الردع» طويل المدى أو تتجاوزه الأحداث المتسارعة خاصة إذا ما تمّ الردّ على عمليات الاغتيال في دمشق وطهران.
أمّا على صعيد المسرح الأوكراني، فمعظم مراكز الأبحاث الأميركية تتهم روسيا بنيتها في استعمال السلاح النووي لكسر الجمود العسكري في أوكرانيا. ما زالت هذه المراكز تعتقد وتروّج لـ«ضعف» أداء الجيش الروسي وتبالغ في قدرات أوكرانيا والحلف الأطلسي لإلحاق الهزيمة بروسيا وإن كانت الوقائع الميدانية على عكس ذلك. فترويج أكذوبة نية روسيا في اللجوء إلى السلاح النووي هو عملية إسقاط على روسيا، أي نسب إلى روسيا ما تنوي الولايات المتحدة القيام به. وهناك حديث حول اللجوء إلى سلاح «تكتيكي» بدلاً من السلاح «الإستراتيجي» وكأن هناك إمكانية للفصل بين الاثنين.
إصرار الإدارة الأميركية على رفض أي حوار مع روسيا حول أوكرانيا يعني أن الحلول الديبلوماسية غير واردة الآن وأن الهدف الفعلي للتصعيد في أوكرانيا هو استنزاف روسيا لخلق حالة من الاضطراب داخل روسيا تؤدّي إلى قلب النظام. من هنا نفهم دعم الإدارة الأميركية السماح للقوّات الأوكرانية باستهداف الداخل الروسي عسكرياً لجرّ روسيا إلى تصعيد يعطي التبرير للجوء إلى السلاح غير التقليدي لكسر التوازن القائم.
الدولة العميقة لم تعد تناسبها «الديموقراطية» والرأي الآخر. ويمكن القول إن المؤسسات الدستورية، كالكونغرس والحكومة، فقدت دورها التقريري وأصبحت منفّذة لخيارات الدولة العميقة وقراراتها. وتأكيداً على ذلك، فإن هناك «استقلالية» في تنفيذ القرارات العسكرية لدى المؤسسة العسكرية. نذكّر هنا رفض المؤسسة العسكرية قرار ترامب بالخروج من سوريا والتحايل عليه. كما نذكّر بإقدام رئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميلي على الاتصال بنظيره الصيني عندما هدّد ترامب بعمل عسكري ضد الصين. وهذا التخابر لرئيس هيئة الأركان المشتركة هو بمنزلة الخيانة العظمى إلّا أنه تمّ الترحيب بذلك القرار لأنه أضعف الرئيس الأميركي. ونشير أيضاً إلى الانقلاب الدستوري الذي حصل لإزاحة بايدن عن الترشّح للرئاسة لولاية ثانية وتنصيب كمالا هاريس كمرشحة للحزب الديموقراطي علماً أنه لم ينتخبها أحد. ويمكن تعداد عدد من الأحداث التي تؤكّد ترهّل المؤسسات الدستورية. فهذا يعني أن من يتخّذ القرارات لا يخضع لأي مساءلة أو محاسبة بل لا أحد يدري بالضبط مَن هو، أو هم، في الدولة العميقة. وفي السياق نفسه، يجب وضع محاولة اغتيال ترامب في خانة إلغاء أي قوّة سياسية تعارض الدولة العميقة. وليس من المستبعد تكرار محاولة اغتياله خلال الحملة الانتخابية أو حتى في حال فوزه.
معارضة شعبية
غير أن الطريق إلى الحرب معبّد بمطبّات وحواجز ليس من السهل تجاوزها خاصة في ما يتعلّق بالمزاج العام الأميركي الذي يرفض الحروب الخارجية وخاصة بعد سلسلة الإخفاقات الأخيرة. فلا بد من تهيئة الرأي العام الأميركي بواسطة الإعلام الشركاتي المهيمن ووسائل التواصل. في هذا السياق، نشير إلى أن 80 في المئة من وسائل الإعلام، بما فيها هوليوود، في الولايات المتحدة مملوكة من قبل 6 شركات وهي مملكوة، بدورها، من قبل 4 شركات مالية. لذلك، تعتقد الدولة العميقة أنه بسبب التمركز الاحتكاري لوسائل الإعلام والتواصل ففي إمكانها السيطرة وتوجيه الرأي العام عبر إقصاء كل صوت معارض. وإجراءات الإقصاء بدأت في ولاية أوباما ووصلت ذروتها في إدارة بايدن. وفي الآونة الأخيرة، تمّت مداهمة منزل سكوت ريتر الضابط الاستخباراتي السابق لمعارضته لسياسة الإدارة في أوكرانيا ولمعارضة الكيان الصهيوني ودعم إدارة بايدن للمجازر التي ترتكب. كما تمّ وضع على قائمة «المشبوهين» تُلسي غابارت المرشّحة السابقة للرئاسة عن الحزب الديموقراطي والتي حطّمت آمال كمالا هاريس. وإضافة إلى ذلك كله، هناك سياسة واضحة على وسائل التواصل الاجتماعي لإلغاء أي صوت معارض. لا يجب أن يغيب عن البال أنه تمّ إغلاق حساب الرئيس السابق دونالد ترامب من منصّة «تويتر» قبل أن تتحوّل ملكيتها لإيلون ماسك الذي أعاد حساب ترامب. وهناك محاولات حثيثة لإدخال تعديلات على التعديل الأول في الدستور الأميركي الذي يصون حق التعبير بحجة أن المعلومات «الخطأ» تضرّ بأمن الدولة. لكن كل هذه المحاولات تواجه بمعارضة شعبية واسعة ما يجعل تحقيق أهداف الدولة العميقة صعباً.
لكن ما يمكن استخلاصه من خطط الدولة العميقة هو عدم الكفاءة للنخب المتحكّمة في تلك المنظومة. وهذا الاستنتاج يستحق مقاربة منفصلة لتبيان مدى وحجم الأخطاء التي ارتكبتها وما زالت ترتكبها النخب صاحبة القرار. فتراكم الإخفاقات لا يدلّ على «تخطيط» بل على عدم قدرة على التعلّم من الأخطاء. وهذا يعود إلى تكوين الدولة العميقة وأجنداتها الخاصة التي تصطدم بالوقائع والتحوّلات التي تحصل في الولايات المتحدة كما في العالم. نذكّر هنا بمقولة الجنرال الفييتنامي جياب الذي هزم الفرنسيين والأميركيين عندما سُئل عن رأيه بالأميركيين فأجاب بالفرنسية أنهم «تلاميذ غير نجباء» (ce sont de mauvais élèves)! ومن الواضح أن رداءة النخب في الإدارات الرسمية لا تقلّ عن رداءة في الكفاءة لأصحاب القرار الفعلي في الدولة العميقة ما ينذر بأن انهيار الكيان الأميركي أمر أصبح من الممكنات وربما قريباً.
* باحث وكاتب في الاقتصاد السياسي،
الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي