تستعد إسرائيل لتلقّي الردود على اعتداءاتها، من إيران ولبنان، عبر اتجاهَي عمل واضحين: الأول هو استيعاب الضربات ومنع إيقاعها الأذى عبر الاستعدادات والجاهزية الدفاعية التي وصلت في اليومين الماضيين إلى حدود وسقوف غير مسبوقة، مع مساندة واضحة وفاعلة تراهن عليها تل أبيب من الشريك الأميركي وأنظمة عربية شريكة وتابعة في المنطقة؛ والثاني هو الاستعداد لتنفيذ ردّ على الردّ، سيتحدّد في حينه وفقاً لمعطياته ومقدماته من دون أيّ علاقة بقرارات متبلورة مسبقاً، وإن كانت إسرائيل تقول إن ردّها سيتحدّد وفق مستوى فعل محور المقاومة وتأثيراته، في محاولة من الآن للتأثير المسبق في ذلك الفعل.وفي مرحلة الانتظار، تكثر المواقف والتصريحات الصادرة من تل أبيب وواشنطن، وبالتبعية في الإقليم، عن مواقيت الردّين، من إيران ولبنان، ومحاولة تحديد نطاقهما وحجمهما ومستويات إضرارهما، وكذلك نطاق الردود الإسرائيلية وحجمها ومستوياتها، مع الترويج لتقديرات وتحليلات إسرائيلية، تصدر عن جهات رسمية - ومنها تقديرات استخبارية - موجّهة للتأثير في قرارات الطرف المقابل، وإن كانت في معظمها دالّة على وجود ضبابية في الموقف وعجز عن تحديد ما سيلي، وخصوصاً مع تعدّد هذه التقديرات وتبدّلها، يوماً بعد يوم.
في هذا الوقت، تواصل الولايات المتحدة إسنادها للكيان الإسرائيلي عبر مستويات ثلاثة. الأول في مرحلة انتظار الردود، وهو محاولة التأثير في قرارات إيران و«حزب الله»، عبر دفعهما إلى التخفيف من حجم ردودهما التي باتت مرجّحة لديها إلى حدّ القطع بها. والثاني، العمل ميدانياً لرفع الاستعداد الدفاعي للتصدي للهجمات، بشكل أكبر بكثير مما كانت عليه الاستعدادات في نيسان الماضي، لدى تلقّي إسرائيل الرد على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق. أما المستوى الثالث، فهو العمل على إعادة إحياء المسار التفاوضي الذي يراد له أن يكون جزءاً لا يتجزأ من الحملة الدفاعية عن إسرائيل، مع محاولة تصوير تلك الردود على أنها نقيضة للمفاوضات وإمكان تحقيق صفقة تبادل أسرى، ما يرفع سقف الرهان على إمكان التأثير في قرارات محور المقاومة.
إلا أن الأهم هو الجهود التي تبذلها واشنطن لمرحلة ما بعد الرد الإيراني، الذي قد يدفع في حال إيقاعه أذى فعلياً نحو ردّ إسرائيلي مقابل، من شأنه أن يدفع كذلك إيران إلى ردّ على الردّ، متناسب مع حجمه، في ما يعني التدحرج نحو سلسلة ضربات يتصاعد حجمها مع تبادلها، وقد يدفع أميركا إلى خيارات ربما لا تكون في مصلحتها في هذه المرحلة. وعليه، فإن الجهود المبذولة حالياً، سواء في إسرائيل، أو في الإقليم، بما يشمل الوجود العسكري الأميركي، تهدف إلى الحد من فاعلية الضربات واستيعابها، على أن يصار إلى تقدير الفعل المقابل الذي لن يكون بالضرورة ما يوعَد ويهدَّد به في مرحلة انتظار الردود. إذ إن التهديدات الحالية غرضها التأثير المسبق في قرارات محور المقاومة، والفروق بين الأمرين كبيرة جداً، ومن الضروري أن تكون حاضرة لدى أيّ تحليل أو تقدير.
على أي حال، يبدو الانتظار سيد الموقف، سواء لدى إسرائيل التي تنتظر الردّ لتقرر ما سيلي من أفعالها، أو لدى إيران و«حزب الله» اللذين ينتظران الوقت المناسب للردّ بعد استنفاد الغرض من جعل إسرائيل تترقبه. ومن هنا، فإن المرحلة الحالية مفصل رئيسيّ في تحديد ما سيلي، وليست جولة تصعيد شبيهة بما كان يجري في الأشهر الأخيرة من عمر الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وفي خلال هذه المرحلة، تبدو الطريق إلى حرب إقليمية معبّدة، أو في الحد الأدنى لا ينقصها الكثير من المقدّمات، على رغم أن أيّاً من أطرافها لا يريدها، في حين أن حرب الاستنزاف تتواصل في مواجهة إسرائيل، على جبهات ست تُضاف إلى غزة، وهي لبنان وإيران وسوريا واليمن والعراق والضفة الغربية، وهي باتت ساحات مرتبطة بعضها بالبعض الآخر، ولا يمكن فصلها وتهدئتها والتسوية في أي منها بعيداً عن الساحة الرئيسيّة التي تجمع الساحات وتحدّد جزءاً رئيسيّاً من أولويّاتها وأهدافها، وهي غزة.
ثمّة ضبابيّة في الموقف الأميركي وعجز عن تحديد ما سيلي الردّ الإيراني
على أن التصعيد الحالي، وما يمكن أن يصل إليه من نتائج، يشكل موضع رهان لدى إسرائيل لم يكن مخططاً له ابتداءّ، وهو إمكان فصل ساحات المساندة عبر التصعيد في كل منها على حدة، على أن يجري لاحقاً التركيز على غزة، بما يمتد زمناً كافياً لتحقيق الأهداف الإسرائيلية في القطاع، وربما في اتجاه إنهاء هذا التهديد عبر إجراءات متطرفة جداً، الأمر الذي لا يمكن فعله مع بقاء جبهات الإسناد مفعّلة في وجه إسرائيل.
والحديث المفرط وغير العقلاني عن استبعاد الحرب الإقليمية، يغري إسرائيل ويفرملها في الوقت نفسه: فهي تأمل أن يغيّر اقتراب الحرب أولويات جبهات الإسناد ويدفعها إلى الانكفاء، لكن في الوقت نفسه، فإن هذا الخطر قد يكبح مواصلتها التصعيد، لأنها هي أيضاً تخشى الحرب الشاملة، ومعنيّة بأن تتجنّب مقدّماتها.
بتعبير آخر، فإن إسرائيل غارقة الآن في حرب استنزاف على جبهات متعددة، من شأنها أن تنفلش في كل ساحة على حدة، أو دفعة واحدة، وتمتد إلى مواجهة شاملة، وهذا ما تهدّد به تل أبيب وتأمل من خلاله أن توقف عملية استنزافها، إلا أنها في الوقت نفسه تخشى فرضية كهذه وهي غير معنيّة بتحقّقها.