لم تعد معركة غزة، بل لم تكن أصلاً معركة محدودة في زمانها ومكانها وخلفياتها المتداولة، ولا تتعلق في بعدها الأساسي بحسابات صغيرة لموقع نتنياهو في اليوم التالي، ولا بحكومة تكنوقراط في غزة، أياً كانت النوايا التي تقف خلفها، صالحة أم طالحة.
غزة ليست واقعة أو معركة معتادة بين طرفين بآفاق وتداعيات محدودة، جغرافياً وسياسياً، برسم التعاطي أو الهروب أو التوظيفات العابرة وما شاكل ذلك من محطات في جدول أعمال إقليمي أو دولي.
وبقدر ما هي ملحمة تاريخية بكل ما في الكلمة من معنى، صمود أسطوري وبطولات من الحديد والنار واللحم الحي، مقابل شر مستطير غير مسبوق من حيث همجيته ووحشيته وانحطاط مؤدلج في تلمود الحاخامات، بقدر ما هي برزخ سياسي بين عالمين حقاً، ودون ذلك تاريخ طويل لفلسطين وبواباتها البحرية المفتوحة على القارات الثلاث والعالم القديم الذي عاد إلى صدارة العالم.
تداعيات غزة ونيرانها وأشلاء الصغار والنساء فيها وأبواق يهوه، سيد القتل حيثما وطأت ثيرانه المتوحشة أرضاً أو زرعاً أو ضرعاً، تضرب بعصاها الأرض والبحر وترسم في الرمل والنار أشكالاً وخطوطاً جديدة للحدود والدول والهويات والأسواق والإيلافات.
ولهذا، لم تعد معركة غزة، بل لم تكن أصلاً معركة محدودة في زمانها ومكانها وخلفياتها المتداولة، ولا تتعلق في بعدها الأساسي بحسابات صغيرة لموقع نتنياهو في اليوم التالي، ولا بحكومة تكنوقراط في غزة، أياً كانت النوايا التي تقف خلفها، صالحة أم طالحة.
ومثل ذلك، فإن حرب الإسناد التي أطلقتها المقاومة في لبنان والعراق واليمن أكبر وأعقد من أن تناقش بالمقاييس الكمية والجغرافيات المتناثرة، والأخطر بحسابات الربح والخسارة الصغيرة البراغماتية، من دون التقليل بالتأكيد من القلق التلمودي المتوحش، وما توفره ماكينة القتل الأنجلو سكسونية، الأميركية – البريطانية لهذا الانحطاط على مدار الساعة.
ما يجري بين المعسكرين، والجبهتين بين شرق المتوسط، جنوباً وشمالاً، وبين كربلاء والرافدين والمضائق الكبرى بين باب المندب ورأس الرجاء الصالح، معركة على الأبجدية السياسية الجديدة للعالم كله، التي لا تحتمل الكنايات والاستعارات واللغو الثقيل.
فإما نهاية التاريخ على أقدام المتروبولات الإمبريالية المجرمة المتوحشة في الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، وإما بداية لتاريخ مختلف يقوم (في عمومياته) على التعدد والمراكز المتساوية شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، ويقوم في ما يخصنا على شرق من الأمم والشعوب الحرة القادرة على صيانة حقوقها في السيادة على مواردها وقراراتها وأراضيها التاريخية كاملة غير منقوصة.
ومن المفهوم، أولاً وقبل كل شيء، أن العثرة الأساسية التي تعرقل ذلك وتؤجّله ولا بد من اجتثاثها مهما بلغت التضحيات، هي الثكنة الاستيطانية الصهيونية، مخلب الإمبريالية والحجر الذي يقدح الشرارات الطائفية والجهوية، لعبة الكانتونات المتكارهة الدامية، وبالتالي فالمعركة مع هذه الثكنة أكبر من أن تقارب كتعارضات سياسية حول الحدود أو ما يسمى بحل الدولتين.
انطلاقاً من ذلك، نحن إزاء التداعيات التالية لمعركة غزة، بافتراض الاحتمال الذي نرجّحه وهو صمود غزة ومقاومتها وعجز العدو عن تثمير القتل والتفوق التكنولوجي، وترجمته في مكاسب سياسية له ولتحالفاته الدولية والإقليمية، وفي مقدمة ذلك محاولاته تفريغ القطاع من المقاومة وإلحاقه بالترتيبات المتداولة.
في المجمل، إذا كانت غزة برزخاً بين ماء عذب فرات وماء مالح أجاج، فإن ما مضى قبل السابع من أكتوبر من ماء تعافه الكلاب، هو محاولات الإمبريالية تأبيد نفسها وإعادة إنتاج أدواتها أو تجديدها عبر الفوضى ورجال البنك الدولي ودافوس والبيلدربيرج والجماعات التكفيرية والثورات الملونة، وكذلك تجديد كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة بالاتفاقيات الإبراهيمية.
أما مشهد اليوم التالي، فهو الاقتراب الحثيث من عالم متعدد الأقطاب لا تهيمن عليه سردية الغرب والليبرالية المزعومة التي سقط القناع عنها في رمال غزة، وهو الحضور الكبير المعمد بالدم والنار لقوى متعاونة وجماهيرها وثقافتها مقابل نظام عربي وإقليمي تراوحت مواقفه بين الكساح والعجز وبين النفاق والتواطؤ.
وبشيء من التفصيل:
- على صعيد الإمبريالية الأميركية وتوابعها الأوروبية، البريطانية، والفرنسية والألمانية، تشكل غزة المقاومة، خاصرة استراتيجية شديدة الأهمية في الصراع على الهارت لاند الجنوبي من أوراسيا، وصمود المقاومة في هذه الجغرافيا العالمية، حيث النفط والغاز وممرات التجارة الدولية في أهميتها العامة في العلاقات المتصاعدة مع طرفي طريق الحرير والطريق الأوراسي.
- على صعيد العدو الصهيوني، فإن خسارة معركة غزة أو حتى بعض النجاح فيها، إعلان ببداية النهاية وأفول المشروع الصهيوني برمته، وقد لا نبالغ إذا قلنا إنه إذا كان السابع من أكتوبر قد أطلق هذه النهاية فعلاً، فإن المستوى المتوحش لجنود يهوه ضد المدنيين قد عزز ذلك وحوّل هذا الكيان من ثكنة وظيفية أمنية ثم سياسية بعد كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة والاتفاقيات الإبراهيمية، إلى ثكنة حاخامية إجرامية مدججة بالأسلحة لكنها مفرغة من أي بعد سياسي، وبالتالي من أي بعد إقليمي، وهو ما يعني نهاية الكيان ودخوله مرحلة الانكماش والأفول والتصدع الداخلي والهجرات المعاكسة.
يشار هنا إلى أن الانتصار العسكري المحض لهذه القوة أو تلك في تجارب العالم لا يختلف عن الهزيمة، إذا كان مسرح التاريخ لم يعد يتسع لهذه القوة. ومن المؤكد أن ستارة هذا المسرح في الشرق الأوسط قد أسدلت بالنسبة إلى العدو منذ السابع من أكتوبر.
- على صعيد البيادق الأخرى للإمبريالية، وهم في أوهامهم وغيهم سادرون، فكلما استعرت نار غزة وطالت أطراف الثياب التي لم تكن تطالهم قبل السابع من أكتوبر وكذلك تموز 2006 أمام حزب الله، ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت.
وهم بين بيادق وظيفية ثانوية على هامش الدور الوظيفي الصهيوني المتآكل، أفضل ما ينتظرهم إعادة إنتاج على شكل جغرافيا وديموغرافيا مجوفة ومفرغة سياسياً، وبين كيانات رملية تتقاذفها الرياح حيث تفتقد إلى الحد الأدنى من الشروط الاجتماعية للاندماج المدني والدولة الحديثة، وبين كيانات أشبه بإرم ذات العماد.
بالمقابل، فإن معسكر الشرقين، الصين وروسيا، من جهة، ودول وقوى الشرق الأوسط المناهضة للإملاءات والابتزازات الأمييكية، من جهة ثانية، بات يمتلك فرصة تاريخية لاستكمال السيطرة على الهارت لاند الشمالي بالإمساك بزمام المبادرة فيما يخص الهارت لاند الجنوبي، حيث يتشكل العالم الجديد.
هكذا نفهم قواعد الاشتباك الجديدة انطلاقاً من معركة غزة وتكاملها الجيوسياسي مع بقية الساحات في محور المقاومة، ابتداء من الاشتباك المدروس كحزب الله مع الغلاف الشمالي لفلسطين المحتلة، مروراً بالمساحات الأفقية للمحور وكسره في كل مرة لمشاريع البافر ستيتات العازلة، سواء كانت جماعات تكفيرية أو قواعد أميركية، وانتهاء بالانقلاب البحري الكبير بين باب المندب ورأس الرجاء الصالح، حيث تمكنت قوة خارج الحسابات، هي أنصار الله اليمنية، من تفريغ القوة البحرية الأميركية من شحناتها السياسية وحوّلتها كما الثكنة الصهيونية إلى تكنولوجيا عارية.