Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

اليوم التالي لانتهاء العدوان الإسرائيلي على مخيم جنين

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي

ربما كان الفلسطينيون يعلمون أن العدو الإسرائيلي سيوقف حملته العسكرية على مخيم جنين، وأنه لن يستطيع الانتظار طويلاً والاستمرار في مواجهة قوى المقاومة في المخيم، والصمود أمام مقاتلين صناديد هيأوا أنفسهم للمقاومة ونذروا أرواحهم للشهادة، وأعدوا ما استطاعوا من قوةٍ وسلاحٍ لمواجهته والتصدي له، وأنه سيجد نفسه مضطراً للخروج منه وسحب جميع قواته من أرجائه قبل أن يجد نفسه مضطراً للموافقة على هدنةٍ من الطرفين، ومناشدة القوى الدولية والإقليمية للتوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار، والقبول بشروط المقاومة لوقف العمليات العسكرية بينهما، تماماً كما يحدث معه غالباً في قطاع غزة، التي تنهي عدوانه بإخضاعه إلى شروطها وإلزامه بضوابطها.

انسحبت قوات العدو من مخيم جنين ومحيطه، وأثناء انسحابها حاولت الاعتداء على مناطق مختلفة من مدينة جنين، وكأنها تحاول أن تسري عن نفسها عما أصابها ولحق بها، وتوهم نفسها بالقوة والغلبة، وتستدرك بعض ما فاتها، وتحقق شيئاً من أهدافها الوهمية التي تتشدق بها، لكن قيادتها كانت تعلم أنها تخرج من المخيم وهي تجر أذيال الخيبة، وتغطي وجهها خجلاً من نفسها، وهروباً من عيون مستوطنيهم، الذين أدركوا أنهم أصبحوا في وضعٍ أخطر مما كانوا عليه من قبل، فجيش كيانهم لم يتمكن من تحقيق أهدافه التي كان يرجو منها تأمين مستوطنيه، وبينما كان يقوم بعدوانه على المخيم، قام فدائيٌ بطل من مدينة خليل الرحمن متنكراً ببزةٍ عسكريةٍ إسرائيلية، بالانتقام لأهله في مخيم جنين، فأصاب عشرة مستوطنين بجراحٍ مختلفة، قد نسمع بموت بعضهم قريباً.

خرج جيش العدو من المخيم، تاركاً وراءه بيوتاً مهدمة، وجدراناً منقبة، وشوارع محفورة، وسياراتٍ محطمة، ومباني مدمرة، وأسراً مشردة، ومستشفياتٍ معطلة، ورجالاً وسيارات إسعافٍ ورجال دفاعٍ مدني معتدى عليهم، واثني عشر شهيداً نصفهم من الأطفال، وأكثر من 150 جريحاً، جراح عشرين منهم حرجة، وحالة دمارٍ شبه كاملٍ في أزقة وشوارع المخيم، سببتها أكثر من مائتي آلية عسكرية إسرائيلية، تتقدمها جرافاتٌ ضخمةٌ وعربات نقل جندٍ مصفحةٍ، وآلياتٌ ثقيلة كاسحة للألغام وأخرى مضادة للعبوات والمتفجرات الجانبية والمزروعة في الطرق والشوارع التي تعبرها آليات جيش الاحتلال.

انسحب جيش العدو من المخيم فخرج مئات المقاتلين الفلسطينيين من مكامنهم، وانتشروا في الشوارع والطرقات، وصعدوا على أسطح المنازل وخرجوا من أزقة المخيم، وهم يحملون أسلحتهم التي قاتلوا بها وصمدوا، ويرفعون رؤوسهم عاليةً التي لم تتطأطأ، ويتبخترون بتواضعٍ أمام أهلهم وحاضنتهم الكريمة، وبكبرياء في مواجهة عدوهم اللئيم، وهم يقولون لأهلهم بكل الحب والولاء، ها نحن أولاء معكم أرواحنا المعنوية عالية، ونفوسنا مطمئنة، وأسلحتنا جاهزة وإرادتنا صلبة، بينما يقولون لعدوهم بكل قوةٍ وعزمٍ، ورباطة جأشٍ وثبات، أن إياك أن تفكر بالعودة من جديد، فنحن لكم هنا بالمرصاد، ومن أفلت منا هذه المرة فإنه لن يفلت في المرة القادمة، ومن نجا من بأسنا هذه المرة ورأى ما رأى، فلا نظن أنه سيعاود الكرة من جديد ويغامر بحياته معنا.

خرج جنود الاحتلال من المخيم وهم يتعثرون في خطواتهم، ويتحصنون في عرباتهم، ويتقدمون كراديس ومجموعات مسربلة بالخزي والعار، تحميهم العربات المصفحة والجرافات، وتحلق فوق رؤوسهم الطائرات والمسيرات، وهم يعلمون يقيناً أن المقاومة الفلسطينية ستنبعث من تحت الركام الذي خلفوه وراءهم، وأنها ستلاحقهم وستنال منهم، وستكون أقوى مما كانت عليه وأشرس، وستعود من جديد تنظم الكتائب وترسل السرايا، وتبعث المقاومين وتجهز المقاتلين، وتؤوي المناضلين وتحميهم، وتكون ملاذهم وحصنهم، فهذا العدوان لم يكسر ظهرهم، ولم يوهن عزيمتهم، ولن يضعف إرادتهم، بل إنه يشحذ هممهم ويوقد نار ثأرهم ولهيب انتقامهم، وقد ذاق العدو طرفاً من غضبهم وبعضاً من غيرة أهلهم عليهم وتضامنهم معهم.

صبيحة الانسحاب الإسرائيلي الذليل من مخيم جنين كان صباح عزةٍ وكرامةٍ للفلسطينيين والعرب في كل مكان، فقد رفعت المقاومة رؤوسهم، وبيضت وجوههم، وأظهرت عزتهم، وأكدت لهم أنها بخير، وأن العدو لن ينال منهم ولن ينتصر عليهم، ولم يحقق شيئاً مما ادعى تحقيقه، فلا هو استطاع الوصول إلى معامل إعداد المتفجرات وصناعة الأسلحة، ولا تمكن من القضاء على البنى العسكرية للقوى والفصائل المقاتلة، وقد عجز عن تفكيك مجموعاتهم ونزع أسلحتهم، وبقيت جنين ومخيمها حصناً وقلعةً ودرعاً وسنداً، يلجأ إليها المقاومون، وينطلق منها المقاتلون، فابتهج الفلسطينيون في الوطن وخرجوا في مسيراتٍ حاشدةٍ في مدنهم وبلداتهم، وأطلقوا العنان لمكبرات الصوت في مساجدهم تهلل وتكبر فرحاً وابتهاجاً، كما فرح المتضامنون العرب والمسلمون مع أهلهم الفلسطينيين في بلادنا العربية وفي شتات الأرض ومغترباتهم كلها.

لن يكون هذا اليوم هو اليوم التالي الوحيد أو الصباح اليتيم الذي يحتفي به الفلسطينيون وتبتهج له أمتنا العربية والإسلامية، بل سيكون قريباً بإذن الله صباحٌ آخر ويومٌ تالي جديد، صباحٌ يسوء فيه وجه العدو ويشرق به وجه كل عربيٍ وفلسطيني، يوم أن يندحر العدو ويتفكك كيانه، ويرحل مستوطنوه ويزول وجوده، وهذا يومٌ لم نعد نراه بعيداً أو مستحيلاً، بل بتنا إليه أقرب وبه أكثر يقيناً وإيماناً، وحينها سنستعيد أرضنا ونحرر وطننا ونطهر مقدساتنا، ويومها سيسود الفرح وسيعم السلام وستعلو رايات المحبة وقيم العدل وقواعد الحق الأصيل.

سلاماً لجنين وأهلها، وألف تحيةٍ لفلسطين ومقاوميها، وشكراً للمتضامنين معهم والمساندين لهم، وإننا وإياهم لعلى موعدٍ مع النصر القريب بإذن الله.