عادت أفكار ترسيخ احتلال قضاء غزة وبناء المستوطنات فيه إلى الرواج في الإعلام العبري. قبل أيام، ظهرت خريطة عبرية تقسّم القضاء - القطاع حالياً - وتلحق مناطقه الثلاث بالإدارات المحليّة للمستوطنات القريبة، المقامة داخل الأراضي المحتلة تاريخياً في «غلاف غزة». ما يعني، ضمّ الشمال إلى بلدية مستوطنة «سيديروت»، والوسط إلى بلدية «بئيري»، والجنوب إلى بلدية «صوفا». تتكامل المجاهرة بالطموحات العدوانية الاستيطانية، مع ما يدور بين كبريات الشركات اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية، والتي بدأت تتنافس وتتسابق على إعداد مشاريع الاستثمار الاقتصادي لأراضي الغزيين والواجهة البحرية للقطاع، بعد الانتهاء من قتل 2 مليون إنسان.
من أين يستمدّ المشروع الاستيطاني في فلسطين (من الفرات إلى النيل تالياً) ثقته بالقدرة على توسيع سيطرته على أرض الشام؟ وهل وصل المشروع الصهيوني إلى القوّة/ العنجهيّة، بما يجعله مقتنعاً بنجاح قضم فلسطين وترسيخ الاستيطان بالتقادم؟
بلا شكّ، فإنّ تسارع الانكشاف الأخلاقي الغربي من حرب أوكرانيا إلى حرب الإبادة الجماعية في غزّة، يؤكّد مدى تمسّك مراكز القوى الغربية بنموذج الاستيطان الإحلالي الذي يجسّده المشروع الصهيوني. يكفي هذا الحرص الغربي، عموماً، لإعادة حفنة من المستوطنين السارقين لأراضي وبيوت الفلسطينيين في شمال فلسطين المحتلّة، إلى المستوطنات التي أجبرتهم المقاومة اللبنانية على إخلائها. كما كان كافياً استنباط أهمية الاستيطان مما يأتي به الموفد الأميركي آموس هوكستين، منذ 8 أكتوبر حتى اليوم، الذي، بالمناسبة، لم يخدع إلّا من أراد أن ينخدع بالوسيط الذي يحمل جنسية العدوّ!
ينبع الحرص الغربي على مشروع الاستيطان في فلسطين تحديداً، من عدّة عوامل، أوّلها تثبيت مشروعية الاستيطان الإحلالي والقضاء نهائياً على فكرة إمكانية تفكيك المستوطنات أو تغيير الوضع القائم، إلّا لمصلحة التوسّع، كما في الجولان والضفة (الآن). فالنموذج الإحلالي درّة عصر التوحّش الأوروبي الأوّل في العالم الجديد، وهو ما تقوم عليه الولايات المتّحدة الأميركية وكندا وأستراليا وجنوب إفريقيا وغيرها. وثانيها، تفادي ارتداد المسألة اليهودية إلى داخل الغرب، بعد النجاح النسبي في ترحيلها إلى الشرق لثلاثة أرباع قرن. معاناة الغرب مرشّحة للتصاعد في السنوات المقبلة مع التيارات اليمينية، التي تبني خطابها اليوم على معاداة اللاجئين والإسلام. وتلك التيارات الغوغائية لا تزال خجولة في إعلان معاداتها لليهود، لكنّها ستجد أرضاً خصبة إذا ما تكاملت العناصر، بعدما أيقظ حلف «الناتو» النزعة الكاثوليكية من سباتها، لتوظيفها ضدّ الروس، الذين يستثمرون بالقيم الأرثوذكسية أيضاً.
إذاً، يستمدّ المشروع الصهيوني ثقته تلك من «قدسيّة» الاستيطان الإحلالي اليهودي عند مراكز القوى الغربية، ومن مسألة أخرى شديدة الأهمية هي وصول التطوّر التكنولوجي العسكري إلى درجة يسهل فيها لعصابات الجيش الإسرائيلي إبادة 200 ألف شخص، بين شهيد وجريح ومفقود وأسير، في أقلّ من عشرة أشهر، وباستخدام «الأسلحة التقليدية» فقط. وهذا ما لم يكن متاحاً للعصابات الأوروبية الأولى التي غزت العالم الجديد قبل ستة قرون.
يطرح السلوك الغربي الحالي على الإنسان تقبّل نموذجين: يعقوب، كمواطن طبيعي، وربّما عالمي، وهو المستوطن الذي أخرج سيّدة مقدسية من منزلها وسرق بيتها - لأنه لو لم يفعل لفعل ذلك مستوطن آخر -، وبنيامين نتنياهو الذي يقتل الأطفال كمهنة تحت مسمّى رئيس حكومة.
لكن مهلاً. فلسطين ليست نيوزيلندا. ليس انتقاصاً من السكّان الأصليين هناك، بل تضامناً معهم، وهم الذين لم يملكوا الأسلحة المناسبة للدفاع عن بلادهم. أمّا فلسطين، والشام عموماً، فشعبها يملك من الجذور والتصميم ما يجعل الصراع مريراً مع أيّ قوّة غازية، فكيف بالاستيطان الإحلالي؟