عدوّنا يريد الحرب، سعياً لتسوية تمحو صورة هزيمته، ومقاومتنا كما هو واضح من صمودها لما يزيد على 300 يوم لا تخشى الحرب، ولا تمانع في توسيعها سعياً نحو نصر أكيد يقصر عمر الكيان الغاصب.
في اتصال مع صديق يعيش في الولايات المتحدة، أخبرني أنه كان يتابع مع أصدقائه خطاب السيد حسن نصر الله الأخير. وعندما قال سماحته إن "إسرائيل" تقف على "رجل ونصف"، هتف أحد الحضور، وكانوا جميعاً يستمعون إلى الخطاب واقفين: "سماحتك إحنا في أميركا واقفين على رجل ونص. كيف إسرائيل!".
عندما يستشهد أحد قادة المقاومة يختلط حزننا بحالة من القلق: هل نستطيع تعويض هذا القائد؟ سؤال يدور في خلد كل واحد منا. في كل مرة يأتي الجواب من الميدان ليبدد شكوكنا. اغتالوا سيد شهداء المقاومة الإسلامية عباس الموسوي، فجاء السيد حسن نصر سيداً للمقاومة من دون منازع، اغتالوا عماد مغنية فكان الشهيد فؤاد شكر، واغتالوا إسماعيل هنية، فانتصب يحيى السنوار قائداً للمقاومة في الميدان وفي السياسة. قضيتنا كانت على الدوام قادرة على صناعة أبطالها وقادتها، لأنها قضية شعب قرر رفض الذل ومقاومة المستعمر، وصنع من نضاله عبقرية سياسية وعسكرية اسمها المقاومة.
عندما استيقظنا على أخبار اغتيال الشهيدين إسماعيل هنية وفؤاد شكر، مر بخاطري درس التاريخ الذي تعلمناه منذ طفولتنا عن مقولة القائد العربي المسلم خالد بن الوليد عندما حضرته الوفاة، فتأسف لموته على سرير المرض بعدما خاض كل تلك المعارك المجيدة.
أليست الشهادة ما يليق بهؤلاء القادة الذين أمضوا عمرهم في ساحات النضال! كلا الشهيدين مطارد من جميع أجهزة الاستخبارات العالمية على مدى أكثر من أربعة عقود. لم يكن لهؤلاء الفرسان إلا أن يترجلوا شهداء. ضعف الشيخوخة والمرض لا يليق بهم، حقهم على التاريخ أن يرتقوا شامخين... شهداء يخلدهم التاريخ، وتتعلم دروسهم الأجيال.
يعلم العدو يقيناً أن اغتيال القادة لن يثني المقاومة عن متابعة طريق النضال، ولن ينال من قناعة جمهورها بجدوى الفعل المقاوم. لن يستطيع من جاؤوا من أصقاع الأرض بحثاً عن السمن والعسل فهم عقل أصحاب الأرض واختلاط ثقافتهم وتاريخهم بتراب هذه الأرض.
حتى محاولة هؤلاء المحتلين صناعة تاريخ لهم على الأرض من خلال أساطيرهم التوراتية باءت بالفشل. حكاية جالوت الفارس الجبار الذي يهزمه داوود الفتى الأشقر صغير الحجم والعمر سقطت على جدار المقاومة. كل فتى أشقر في الكيان الغاصب يعلم من أين أتى، وأن أباه أو جده قد شارك بمجزرة ضد أصحاب الأرض، وكل فتى أسمر على هذه الأرض يعرف قبر جده العاشر أو العشرين، ويستطيع أن يروي لك قصص الشهداء الذين سقطوا في سبيل الدفاع عن أرضهم منذ مئات السنوات.
عدوّنا يريد الحرب، سعياً لتسوية تمحو صورة هزيمته، ومقاومتنا كما هو واضح من صمودها لما يزيد على 300 يوم لا تخشى الحرب، ولا تمانع في توسيعها سعياً نحو نصر أكيد يقصر عمر الكيان الغاصب.
هذه الحرب ليست، كما يصور البعض، محاولة من نتنياهو لتجنب المحاكمة والإعدام السياسي، لأن نتنياهو سوف يرحل عاجلاً أم آجلًا، والرأسمالية العالمية لن تقبل بتعريض مصالحها في المنطقة للخطر لإنقاذ رجل واحد، مهما كان حليفاً مهماً، وتاريخها حافل بالتخلي عن حلفائها أفراداً ودولاً.
لقد حملت عملية طوفان الأقصى وما تلاها من وحدة جبهات المقاومة تهديداً حقيقياً للهيمنة الرأسمالية على بلادنا. لذلك، فإن النظام الرأسمالي العالمي يخوض الحرب متضامناً متكافلاً بهدف إسقاط المقاومة فكراً وفعلاً، واستعادة المنطقة إلى حظيرته، وهو في هذا الشأن لا يأبه للمجازر والفظائع، بل لعلَّه يفكر بتجييرها لمصلحته عند البدء بعملية إعادة الإعمار بتدخله المباشر أو بواسطة وكلائه المحليين والدوليين.
في الجانب الآخر، تمثل حكومة اليمين المتطرف في الكيان النموذج الذي يسعى اليمين لتحقيقه في جميع الدول الرأسمالية. لذلك، يدعم اليمين المتطرف في أوكرانيا وفنزويلا، ويراهن على انتصار هذا اليمين الفاشي ليفرض بواسطته هيمنته على العالم بالقوة الغاشمة.
لقد حصل نتينياهو على دعم أميركي لخططه الحربية خلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة، لكن الدعم الأهم جاء من أوساط اليمين المتطرف الأميركي والصهيوني، الذي يشكل ستاراً يمنع محاسبة حكومة العدو على التصعيد الذي يمكن أن يجر المنطقة إلى حرب واسعة لا ترغب فيها الإدارة الديمقراطية الحالية.
هذا الصراع داخل البنية الرأسمالية لا يقوم على أسس إنسانية أو أخلاقية، فهو ليس سوى صراع مصالح بين يمين متطرف يسيطر على تجارة الأسلحة والنفط التي تستفيد من القلاقل والحروب، ويمين ليبرالي يسيطر على تجارة التجزئة التي تستفيد من الاستقرار وسهولة انسياب البضائع. في كلتا الحالتين، لن يحسم هذا الصراع لمصلحة الشعوب المنهوبة، ولكن لمصلحة الشركات الناهبة في هذا الطرف أو ذاك.
العالم من حولنا يتغيّر. مهما طالت فترة المخاض، فإننا نترقب ولادة عالم جديد. هذا العالم صنعت المقاومة بتصديها للمشروع الرأسمالي في سوريا خطوته الأولى، عندما فتحت الباب لروسيا للعودة إلى الساحة الدولية كلاعب رئيس، وها هي المقاومة تقدم التضحيات مرة أخرى لتضرب هذا المشروع في مقتل، بهزيمتها استثماره الأكبر الذي يمثله كيان الاحتلال. دعم المقاومة وخياراتها في كل الساحات وعلى كل الجبهات لم يعد واجباً وطنياً فحسب، بل أصبح ضرورة لا بد منها لكل من يحمل الأمل بمستقبل مشرق لشعوبنا ووطننا.