إنّ مقاطعة نظام القتل الاستعماريّ القائم في فلسطين المحتلّة، والذي يَنْكُب المنطقة بأكملها، هي أقلّ ما يمكن أن يفعله إنسان ليسهم مع الفلسطينيّين وسكّان هذه المنطقة في عمليّة تحرّرهم. دائماً ما ظنّ اللبنانيّون والسوريّون أنّ إسرائيل هي مشكلة الفلسطينيّين، ولا يُلامون على ذلك ما دام لم ينبّههم، إلى أنّ إسرائيل خطرٌ وجوديّ على كلّ المنطقة، لا نظامٌ تعليميّ ولا إعلامٌ متفرّغ لتوسيخ العقول مقابل الدولارات. لكن، يمكن لكلّ إنسان أن يتذكّر، على الأقلّ، التاريخ. فكيف ننسى ارتكاب نظام القتل المسمّى «إسرائيل» المجازر في لبنان وإشرافه عليها؟ كيف ننسى تعمّده قتل المدنيّين في حماية الأمم المتّحدة في قانا وخرقه لكلّ قانون يحمي المدنيّين؟ كيف ننسى احتلاله لنصف لبنان قبل أن تهزمه المقاومة وتطرده شرّ طردة؟ كيف ننسى استمراره باحتلال قُرى لبنانيّة حتّى الآن؟ كيف لا نرى استخدامه الأسلحة المحظورة في جنوب لبنان اليوم؟ كيف ننسى عشرين ألف إنسان، جلّهم من المدنيّين، قتلهم عند اجتياحه لبنان عام 1982؟ كيف ننسى أنّ هذا الكيان يصرّح رسميّاً أنّه لن يسمح لدولة فلسطينيّة بالوجود فيقتل ويدمّر بكلّ وحشيّة ويقضم الأرض ويضمّها إليه. إسرائيل نظامٌ استعماريّ مغروس في المنطقة لسلبها ونهبها واستعباد سكّانها باستخدامهم كأدوات للنهب الاستعماريّ وبقتلهم ببطء الفقر.
إنّ وعيْنا ذلك نرى أنّ علينا جميعاً المساهمة في إنهاك هذا الكيان الاستعماريّ ومحاصرته حتّى انهياره مع الأنظمة العربيّة الفارغة التي تخدمه اليوم. علينا جميعاً المساهمة في انهياره لأنّه خطر علينا جميعاً، اليوم وغداً وكلّ ساعة. هنا نفهم المقاطعة وسيلة سهلة لا خطر فيها على أحد، قائمة على الامتناع عن دعم الكيان ودعم مَن يدعمه بالامتناع عن شراء أيّ بضاعة صادرة عن شركاته أو الشركات التي تدعمه. هذا، من جهة يضغط عليه ماليّاً، ومن جهة ينمّي الصناعات المحلّية، ومن جهة يعاند الأنظمة العربية القمعيّة المطبّعة دون أن يعرّض الإنسان نفسه لقمعها ويمهّد لانهيارها عند انهيار النظام الصهيونيّ في فلسطين المحتلّة.
ينبغي لكلّ مارّ في طريق أن يلوم روّاد مقهى تجب مقاطعته ويدعوه للانضمام للمقاطعة
لا نعرف مدى التزام المقاطعة، وإن كان يبدو أنّها تصاعدت بعد الحرب الوحشيّة القائمة اليوم على غزّة (والضفّة). لكنّا لا نزال نرى روّاداً لمقاهٍ أو مطاعم يجب مقاطعتها (بل ومنعها من العمل في بلادنا). ينبغي لكلّ مارّ في طريق أن يلوم روّاد مقهى تجب مقاطعته ويدعوه للانضمام للمقاطعة. ينبغي أن يشعر المواطن والمواطنة أنّه من العار أن يرتاد مقهى أو يستهلك مشروباً غازيّاً أو بضاعة أخرى تجب مقاطعتها (بل ينبغي منع استيراد وإنتاج هكذا بضاعة). ينبغي شنّ الحملات بلا هوادة على داعمي الكيان الاستعماريّ الذي ينهبنا ويقتلنا. ينبغي مقاطعة قنوات تلفزيونية متصهينة في بلادنا والكفّ عن متابعتها.
وأقلّ الإيمان، في رأيي، أن تدعو الجوامع والكنائس (طالما بلادنا تكتظّ بها) إلى المقاطعة، وتجعلها فرضاً واجباً دينيّاً على مَن آمن بالله وباليوم الآخر. ويمكن للمسيحيّين أن يذكّروا بعضهم بعضاً أنّ واحداً من أتباع يسوع الناصريّ قال منذ ما يُقارب ألفي عام: «إن كان أكلُ اللحم يُشكِّك أخي، فلا آكل لحماً إلى الأبد»، فكيف إن كان «الأكل»، أي استهلاك بضاعة، لا يشكّك فقط، وإنّما يسهم في قتل واغتصاب وتعذيب وهدم وتدمير واستعباد، ويرسم مستقبل موت معنويّ ومادّي لأهل المنطقة؟
مَن يحبّ الحياة حقّاً، يُقاطع.
* كاتب وأستاذ جامعي