بقلم / عمرو علان
لطالما احتلّ النقاش حول أحقّية تمثيل الشعب الفلسطيني مساحةً واسعةً في أروقة العمل الحزبي والفصائلي على مدى تاريخ الثورة الفلسطينية، فكان يتقدّم تارةً ويتراجع أخرى حسب ظرف المرحلة. ومع دخول النضال الفلسطيني مرحلةً جديدةً، كانت بداياتها في عام 2007 بما يطلق عليه «الانقسام الفلسطيني»، هذه المرحلة التي ظهرت مفاعيلها يوم السابع من تشرين الأول المجيد، عاد النقاش ليتصدّر المشهد مجدّداً، إذ لا يكاد يخلو حوارٌ راهنٌ من التطرّق إلى قضية التمثيل، وذلك بما تتضمّنه تلك القضية مِن تفاوضٍ مع العدوّ حول مسائل مرحليةٍ كالهدن، أو الأمور السياسية الأخرى بمعناها الأوسع.ومناط هذا الجدل، بالعموم، مدى أحقّية تولّي فصيلٍ فلسطيني بعينه قضايا التفاوض فيما ينحصر دور الفصائل الأخرى بحدود التشاور. وينصبّ الجدل في هذه الحقبة حول حركة «حماس» كونها الفاعل الأبرز في الساحة الفلسطينية، وهي التي بطبيعة الحال تتولّى التفاوض على وقف إطلاق النار في معركة «طوفان الأقصى»، ولا سيما أنّ هذه المعركة تعدّ منعطفاً مفصليّاً في تاريخ القضية الفلسطينية، بل في تاريخ صراع المنطقة عموماً مع دول الاستعمار الغربي بما يمثله النضال ضد الصهيونية من ركيزةٍ أساسيةٍ في مسار تحرّر الأمّة العربية-الإسلامية واستعادتها لنهضتها.
ينطلق البعض في نقاش قضية التمثيل والتفرد بالقرار الوطني من خلفياتٍ حزبيةٍ، لكنّ كثراً آخرين، في المقابل، تدفعهم هواجسهم الوطنية الصرفة ونوايا خالصة، ولا سيما بعد التجربة المريرة مع منظمة التحرير الفلسطينية وتفرّد حركة «فتح» بالقرار الوطني وما آلت له المنظمة و«فتح» من وضعٍ مزرٍ، ومن تفريطٍ بالحقوق والثوابت الوطنية والقومية، انتهاءً بالدّرك الأسفل الذي وصلت إليه أجهزة السلطة من عمالةٍ مفضوحةٍ تحت مسمى «التنسيق الأمني». لذلك، سيحاول هذا المقال طرح مقارباتٍ لمخاوف البعض من تفرّد حركة «حماس» بالقرار الفلسطيني من عدّة زوايا، أملاً في الوصول إلى كلمةٍ سواء شعبياً وفصائلياً، وفي محاولةٍ للخلوص إلى حلولٍ متسقةٍ ومقبولةٍ وطنياً. ولأجل حصر النقاش، سيتناول المقال الموضوع تحت بندين عريضين: القضايا السياسية المتعلقة بالثوابت الفلسطينية كالحدود وحق العودة... أمّا البند الثاني فسيتناول قضايا التفاوض المرحلي أو الموضعي كمفاوضات وقف إطلاق النار وفك الحصار وغيرها.
البند الأول: القضايا السياسية... الثوابت الوطنية
في المبدأ، لا يعد منطقياً اتخاذ المواقف القطعية بناءً على الهواجس، ففي هذا استباقٌ للأحداث، وتأسيسٌ على فرضياتٍ لا ترقى إلى الحتمية، إذ لا يمكن ترجيح مسارٍ ما إلا بعد تضافر وقائع دامغةٍ تتخطى مجرّد المخاوف.
مع هذا، فإن الملاحظات التي تثار من بعض الأوساط حول مواقف حركة حماس السياسية المستقبلية مبنيةٌ على شيءٍ من التباس في خطاب الحركة ذاتها، ولا سيما تلك التصريحات التي تتناول الدولة الفلسطينية عوضاً عن الحديث عن التحرير، فمِن ذلك مثلاً «وثيقة الأسرى» 2017، التي تحوي بنوداً حمالة أوجهٍ حول القبول بحدود 1967، أو بعض البيانات الأخرى التي تشير إلى «الشرعية الدولية» وقراراتها.
لا يعني هذا الالتباس في خطاب «حماس» أنها قد تبنّت «حل الدولتين»، ولا هو يفيد بأنها على طريق تبنّيها له، فالجزم هنا بمستقبل الحركة يعدّ ضمن الاستباق التعسفي لمسارات الأحداث. لكن في المحصّلة، «حماس» كباقي البشر ليسوا «معصومين»، وهي بالطبيعة حزبٌ سياسيٌّ يصيب ويخطئ، ويمكن هنا معالجة هذا الهاجس على مستويين، سياسيٍ وآخر عملي:
1- المستوى السياسي: ضرب الأساسين القانوني والسياسي
أ) حماس ليست منظمة التحرير الفلسطينية، ولا هي حتى أحد فصائلها، لذلك فهي لا تملك صفة تمثيل الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات من الناحيتين السياسية والقانونية الصرفة، لذلك فإن أي تفريطٍ أو تبديلٍ من قِبَلِها لا يعد إلا تغييراً في نهج الحركة، ولا يُلزِم إلا أعضاءها، وليس له أي مفاعيل سياسية خارج أُطُرها، هذا فضلاً عن عدم مشروعية التفريط بالثوابت الوطنية شرعياً ووطنياً وقانونياً بالأساس حتى من قبل منظمة التحرير الفلسطينية ذاتها.
ب) يُشتَم من المطالبات بتشكيل قيادةٍ سياسيةٍ موحّدة مع «حماس» رائحة التفاوض السياسي على نسق مفاوضات «أوسلو» وما تبِعَها من كوارث على القضية الفلسطينية، ومن المفترض أنّ خلاصة تجربة «أوسلو» المريرة والتفاوض السياسي بصورةٍ عامة توضّح بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا استعادة للحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية إلا عبْر الكفاح المسلّح، ومن خلال العمل الجاد لتغيير موازين القوى، فكيف إذاً و«طوفان الأقصى» قد أسّس لمرحلةٍ جديدةٍ من النضال ضد الصهيونية؟ ألم تُجْمِع قوى المقاومة في الإقليم على أن «طوفان الأقصى» – بإذن الله – بداية التحرير؟
2. المستوى العملي {خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}
وصفَ معظم المعنيين «طوفان الأقصى» بالزلزال الإقليمي الذي لن يكون بعده كما قبله، فالمعركة الحالية لا تقبل القسمة على اثنين من الناحية الاستراتيجية، وإن تحقيق الانتصار في هذه الجولة بما لها من أبعادٍ فلسطينيةٍ وإقليميةٍ يؤسّس لبداية نهاية الكيان المؤقّت، إذ خلقت «كتائب القسّام» صبيحة 7 تشرين الأول ديناميكياتٍ ميدانية جديدة، واندفاعة إقليمية يتعذّر على العدو كبحها بدون إزالة خطر «القسّام» وحزب الله على المستوى الاستراتيجي، فلقد أقرّ العدو بأنه قد بات بالفعل في قلب معركةٍ وجوديةٍ على جبهتي جنوب وشمال فلسطين المحتلة.
وعليه، يتوجّب على الفصائل الفلسطينية صرف جلّ جهدها في هذه المرحلة لتعظيم زخم اندفاعة «طوفان الأقصى»، ولن يكون ذلك إلا بنقل كرة النار الملتهبة إلى ساحة الضفَّة بمعزلٍ عن العوائق والصعوبات، فهذا وحده ما يخدم المعركة والمشروع الوطني معاً. لكن على صعيدٍ آخرٍ، سيشكّل تصعيد العمل المقاوم في الضفَّة شبكة أمانٍ لـ«حماس» من أي انحرافٍ مزعومٍ عن النهج أو تنازلٍ مفترضٍ عن الثوابت؛ فمن ذاك الذي سيجرؤ حينها على الترويج لتنازلاتٍ في ظل هكذا اندفاعة؟ وفي ظل اشتعال الضفَّة إلى جانب غزة؟ ولا سيما مع وجود قياداتٍ مقاوِمة تقولها صريحةً: «علينا أن نمضي قدماً على نفس المسار الذي بدأناه أو فلتكن كربلاء جديدة»؟
البند الثاني: التفاوض المرحلي... وقف العدوان وفك الحصار
لا تحتمل هذه النقطة الكثير من الأخذ والرد، فمن البديهي أن تقود «حماس» التفاوض على وقف إطلاق النار وما ينبثق عنه من قضايا، فهي التي بدأت «طوفان الأقصى» وهي التي تخوض الحرب، بل إن قيادة «القسّام» مَن تُدير مباشرةً اليوم التفاوض على هذه المسائل لا جناح الحركة السياسي، فأهل الميدان هم الأجدر بتقدير الموقف بشأن المعركة. ولقد أثبتت مفاوضات الأشهر الثمانية الماضية أنه صار للشعب الفلسطيني قيادةٌ مفاوضةٌ قسّاميةٌ صلبةٌ وحكيمةٌ وذكيةٌ، بل يمكن الزعم بأنّه لم يمر في تاريخ الفلسطينيين مفاوضٌ على هذا القدر من الكفاءة والحنكة من قَبْل قط.
مع ذلك، فإنّ قيادة «القسّام» قد حرصت منذ بداية الحرب على وضع باقي فصائل المقاومة في صورة التفاوض وعلى التشاور بشأنه، رغم كون القضايا المطروحة على التفاوض تخصّ بشكلٍ رئيسٍ حركة «حماس»، إذ لا يترتّب عليها أي التزاماتٍ سياسيةٍ على باقي الفصائل ولا على عموم الشعب الفلسطيني.
خاتمة
من نافلة القول أن تقييم مسار أي حركةٍ سياسيةٍ أمرٌ صحيٌّ بل مطلوبٌ وطنياً، لكن إلى جانب التقييم النظري، يأتي الفعل على الأرض بصفته الطريقة الأمثل والأكثر جدوى لتلافي الزلّات الوطنية، ولا سيما حينما يتعلق الأمر بفصائل تحرّرٍ وطنيٍّ لا تملك فعلياً سوى تمثيل ذاتها سياسياً، ولا تأخذ مشروعيتها الشعبية إلا بقدر التزامها بالمشروع الوطني وثوابته، فالحديث هنا لا يتعلق بدولةٍ مستقلةٍ وأحزاب حاكمةٍ وأخرى معارِضةٍ.
هذا ما قامت به حركتا «حماس» والجهاد الإسلامي، فإلى جانب النقد الذي كانتا توجّهانه إلى مسار منظمة التحرير الفلسطينية وحركة «فتح»، كانتا تعملان بجد في الميدان لتفعيل العمل المقاوم واستمرار الجهاد على الأرض، وأمام الفصائل الفلسطينية اليوم ساحة الضفَّة التي تتعطش إلى جهدها ودعم حراكها المقاوم.
أخيراً، إذا ما وضعت حركات التحرّر الوطني نصب أعينها مسألة التحرير لا مسألة الدولة والتمثيل السياسي، كما أثبتت التجربة أنها الاستراتيجية الأسلم في حالة القضية الفلسطينية، يصبح التنافس السياسي على التمثيل أمراً ثانوياً، اللهم إلا إذا كانت النية تكرار تجربة منظمة التحرير الفلسطينية وورقة «النقاط العشر» وباقي حكاية السلطة الفلسطينية.