تعود الأزمة السياسية الحزبية الإسرائيلية الداخلية إلى ما كانت عليه قبل تشكيل نتنياهو حكومته الحالية، والتي أجرت بها "إسرائيل" خمس عمليات انتخابية في أقل من أربع سنوات، واتسم المشهد السياسي بالاضطراب وعدم الاستقرار الحكومي.
أظهرت الاستطلاعات الأخيرة في "إسرائيل" أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بدأ بالتعافي شعبياً بعد كارثة السابع من أكتوبر، ولأول مرة من عدة أشهر، يتقدم على منافسه رئيس المعسكر الرسمي بني غانتس باستطلاع الأفضلية لمنصب رئاسة الوزراء، ولكن بقيت مشكلة نتنياهو أن معسكر ائتلافه الحالي لن ينال إلا 52 مقعداً إذا جرت انتخابات الكنيست حالياً، بمعنى أن نتنياهو لا يستطيع تشكيل حكومة بالائتلاف ذاته في حال الذهاب إلى انتخابات مبكرة في ظل هذه الاستطلاعات.
وعلى المقلب الآخر، معارضو نتنياهو من الأحزاب الصهيونية لن يحصلوا إلا على 58 مقعداً، بمعنى أنهم أيضاً لن يتمكنوا من تشكيل حكومة بديلة ما لم يتحالفوا على الأقل مع بعض القوائم العربية داخل الكنيست، التي تمنحها الاستطلاعات 10 مقاعد بمجموعها.
وبذلك تعود الأزمة السياسية الحزبية الإسرائيلية الداخلية إلى ما كانت عليه قبل تشكيل نتنياهو حكومته الحالية، والتي أجرت بها "إسرائيل" خمس عمليات انتخابية في أقل من أربع سنوات، واتسم المشهد السياسي بالاضطراب وعدم الاستقرار الحكومي، ولكن الأمر بات أكثر تعقيداً بعد حرب غزة، واحتياج "إسرائيل" الضروري جداً، إلى الاستقرار السياسي والحكومي، الذي يمكنها من اتخاذ قرارات استراتيجية على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية والدبلوماسية، خاصة في ظل حكومة نتنياهو الحالية، التي تسعى المعارضة لتشكيل حكومة بديلة، لتنقذ "إسرائيل" من أزماتها الاستراتيجية وتزيح نتنياهو عن كرسي رئاسة الوزراء.
لكن المعضلة الأساسية حسب قراءة استطلاعات الرأي وطبيعة التحالفات السياسية الإسرائيلية الصهيونية، أن ذلك لا يتم إلا إذا انضمت القوائم العربية في الكنيست إلى الائتلاف الحكومي البديل من حكومة نتنياهو كما فعل منصور عباس عندما شارك في الائتلاف الحكومي لحكومة نفتالي بينت ويائير لابيد.
بعد السابع من أكتوبر وحرب غزة، تغيّرت الأجواء الإسرائيلية والمزاج الشعبي الصهيوني بشكل أساسي صوب المزيد من الكراهية للفلسطينيين بمن فيهم فلسطينيو الداخل عام 1948، رغم موقفهم الحذر جداً من أي مشاركة شعبية أو تصريحات سياسية تثير الحقد الصهيوني اليهودي بعد السابع من أكتوبر، ورغم أن الهدف الأول للحكومة البديلة من حكومة نتنياهو هو السير قدماً في خطة الولايات المتحدة الأميركية لليوم التالي للحرب، وإخراج "إسرائيل" من أزمتها الأمنية الاستراتيجية.
وترى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أن ذلك يتحقق من خلال إدماج "إسرائيل" في المنطقة، وإعادة تموضعها كركيزة أساسية في الحلف الأميركي في الشرق الأوسط، من خلال التطبيع الإسرائيلي مع المملكة العربية السعودية. هذا التطبيع الذي يتيح للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها مواجهة محور المقاومة وحلفائه الروس والصينيين، ولكن السعودية من أجل إتمام ذلك، تشترط أن تعلن "إسرائيل" بشكل رسمي دعمها حل الدولتين، الأمر الذي يرفضه نتنياهو وحلفاؤه من الصهيونية الدينية بتسلئيل سيموتريتش وإيتمار بن غفير.
الأمر الذي دفع بالجهد الأميركي إلى أن يقفز عن نتنياهو وحكومته باتجاه إقناع النخب والشارع الإسرائيلي بأهمية الخطة الأميركية للأمن القومي الإسرائيلي، وأن بضعة تنازلات للفلسطينيين ثمن مقبول للأرباح الاستراتيجية التي ستجنيها "إسرائيل" من وراء ذلك التطبيع وتلك الخطة. ولكن، كل تلك الجهود الأميركية، لم تفلح حتى الآن أن تصيغ أجواء سياسية إسرائيلية، والمزاج الشعبي الصهيوني مشابه لتلك الأجواء والمزاج الذي ساد عشية تشكيل حكومة إسحاق رابين عام 1992م، والتوقيع على اتفاق أوسلو عام 1993م، والذي كما يقولون في "إسرائيل": أعاد القدس إلى السيطرة اليهودية بعد أكثر من ألفين عام كرئيس أركان "الجيش" آنذاك، لكنه لم يجد حرجاً في دعم حكومته من القوائم العربية في الكنيست من خارج الائتلاف وتشكيل شبكة أمان انتخابي لها من الفلسطينيين في الداخل عام 1948م، والذهاب إلى عملية التسوية، رغم معارضة اليمين الإسرائيلي لها.
ائتلاف رابين آنذاك وطبيعة حلفائه، وشكل الخريطة السياسية والأيديولوجية للأحزاب المهيمنة على المشهد السياسي الإسرائيلي تختلف بشكل كبير جداً عن طبيعة المعارضة الإسرائيلية لحكومة نتنياهو، فالتغيرات التي جرت في الحلبة السياسية الإسرائيلية خلال الأعوام الثلاثين الماضية، إذ انزاح المجتمع الإسرائيلي تجاه اليمين واليمين الديني المتطرف، جعلت توجهات المعارضة لحكومة نتنياهو يمينية بالتوجهات السياسية، وقد تجد الصعوبة ذاتها أمام نواتها الانتخابية ليس أقل من حكومة نتنياهو بالالتزام بمعارضة إقامة دولة فلسطينية بين النهر والبحر، فرغم أن يائير لابيد وغانتس أحزاب وسط، ولكن وسطيتهم تظهر في الشأن الداخلي الإسرائيلي الصهيوني، وخصوصاً في الرؤية الاقتصادية وعلمانية الدولة، وليس في الموقف السياسي تجاه القضية الفلسطينية.
أضف إلى ذلك، أنه من أجل حصولهم على شرعية صهيونية لتشكيل حكومة بديلة من حكومة نتنياهو، وخاصة في أجواء الحرب على غزة، وفي ضوء تجربة إسقاط حكومة نفتالي ولابيد السابقة، لا بد أن يتشكل الائتلاف البديل من أحزاب صهيونية، خاصة مع وجود كل من أفيغدور ليبرمان رئيس حزب "إسرائيل بيتنا" اليميني الفاشي، وجدعون ساعر رئيس حزب اليمين الرسمي، اللذين يكنّان الكراهية لكل ما هو فلسطيني، ويرفضان إقامة دولة فلسطينية أو الحديث عنها كرؤية أيديولوجية وسياسية، لذلك منذ البداية صرح ليبرمان أن المطلوب هو ائتلاف صهيوني معارض، كإشارة واضحة على استثناء التحالف مع القوائم العربية، الأمر الذي انعكس على عدم دعوة أي من رؤساء القوائم العربية إلى الاجتماع الثلاثي الذي جمع لابيد، ليبرمان، ساعر، بل أكثر من ذلك، لم تتم دعوة ميراف ميخائيلي رئيسة حزب العمل السابق، أو يائير غولان رئيسه الحالي الذي تم انتخابه قبل يوم واحد من اللقاء، كون دعوة غولان بمواقفه اليسارية الحادة من اليمين الإسرائيلي وحكومة نتنياهو، ودعمه حل الدولتين، لا يخدمان استراتيجية مشروع الائتلاف الصهيوني المعارض الذي يسعى لاستمالة شرائح من اليمين الإسرائيلي تجاه هذا الائتلاف الهادف إلى إسقاط نتنياهو وحكومته، ومواقف غولان تستفز وتنفره من دعم هذا الائتلاف البديل.
يرى قادة الائتلاف المعارض لنتنياهو أن التحالف مع القوائم العربية يقطع الطريق أمام توسيع دائرة المعارضة لنتنياهو من خلال انضمام شخصيات يمينية مركزية تعارض نتنياهو على مستوى السلوك السياسي وليس على مستوى الأيديولوجيا السياسية اليمينية، أمثال يوسي كوهين مسؤول الموساد السابق، ونفتالي بينت رئيس الوزراء السابق، واييلت شاكيد وزيرة القضاء السابقة، الذين من المتوقع تشكيلهم كتلاً انتخابية في انتخابات الكنيست القادمة.
الجدير بالذكر أن يؤاف غالانت، وزير الحرب الإسرائيلي، والذي يعدّه نتنياهو حصان طروادة الذي يمكن أن يسقط قلعته من الداخل، لا يمكن له الانشقاق عن الليكود والانضمام إلى ائتلاف فيه قوائم عربية غير صهيونية قد يكون شرطها دعم حل الدولتين، إلا إذا تخلى عن حلمه في وراثة نتنياهو في قيادة اليمين الصهيوني.
وفي المحصلة، إسقاط نتنياهو وحكومته في حقيقة الأمر لا يخدم الأميركيين في تمرير خطتهم لليوم التالي للحرب والتطبيع الإسرائيلي مع السعودية داخل الجانب الإسرائيلي، وفي الوقت ذاته، لا يمكن للقيادة السعودية كدولة مركزية فيها الأماكن الإسلامية المقدسة أن تذهب إلى التطبيع مع "إسرائيل" من دون أن يكون هناك حراك في الملف الفلسطيني مبني على حل الدولتين، وخاصة بعد حرب غزة، واتهام "إسرائيل" بممارسة إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني.