| لميس أندوني
بغض النظر عن الموقف من الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس (أبو مازن)، فإن استمراره في إعلان رفضه الخطة الأميركية – الإسرائيلية للسلام في الشرق الأوسط ضروري، وفي غاية الأهمية، بل هو الموقف الأهم بين المواقف الرسمية العربية، ولكن الموقف اللفظي، من دون تقديم رؤية استراتيجية لمواجهة مخطّط تصفية القضية الفلسطينية مضيعة للوقت، وتمييع للموقف الشعبي الفلسطيني، فالمطلوب هو الاستنهاض الشعبي، وليس الاحتواء والتخدير.
الأخطر هو طبيعية المناورات التي تتبعها القيادة الفلسطينية، وخصوصا أبو مازن، والتي تُفقد الرفض قيمته، وتقزّمه إلى مجرد تهديد كلامي، لا أدوات له، فالمسألة مصيرية، لا تحتمل "الفهلوة" والتكتيكات الإعلامية قصيرة النظر. وقد تجسّدت هذه العقلية التي تفتقر إلى الجدّية في خطاب الرئيس أمام مجلس الأمن في الأمم المتحدة، حاول نسف الرواية الأميركية الإسرائيلية لكنه في الوقت نفسه تسبّب بضرر كبير، حين وضع هذا الموقف في سياق الخطة الأميركية من "رفض الإرهاب"، بهدف تقديم السلطة مجدّدا ضامنة لأمن إسرائيل.
يبدو أن أبو مازن لا يمكنه الإفلات من عقدة إثبات حسن السلوك للجانبين، الإسرائيلي والأميركي، وكأن الأمر يتعلق بخللٍ عند الشعب الفلسطيني يجب إصلاحه، حتى يكون مستحقا للحرية ولحقوقه الإنسانية والوطنية. تعبيرات الرئيس الفلسطيني التي عنت، ضمنيا، شيطنة المقاومة ووضعها في خانة الإرهاب مُذلّة ومرفوضة، وتتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة الذي يقول، بوضوح بحق أي شعب يرزح تحت الاحتلال باستعمال كل وسائل المقاومة، بما فيها العمل المسلح ضد قوات الاحتلال. ولكن عباس المسكون بعقلية "أوسلو" اختار الشروط الأمنية الإسرائيلية مرجعيةً، واختار لغة العدو المحتل بتجريم مقاومة الشعب الفلسطيني تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً.
ليس المقصود الدعوة إلى الكفاح المسلح، فلكل مرحلة ظروفها، وتحتاج قرارات استراتيجية، لكن التأكيد على شرعية كل أشكال المقاومة هو تأكيد على شرعية حقوق الشعب الفلسطيني، خصوصا أن إسرائيل وأميركا تحاولان تقويض كل أشكال المقاومة الفلسطينية وتجريمها. من حق التلفزيون الفلسطيني الرسمي بثّ برامج عن تاريخ النكبة، وعن محاربة حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات (إل بي دي إس) من الكيان الصهيوني في كل مكان، وكذلك حق السلطة نفسها بالذهاب إلى محكمة الجنايات الدولية لمقاضاة مجرمي الحرب الإسرائيليين، إذ إن القبول بالمفهوم الأمني الإسرائيلي – الأميركي في إطار "مكافحة الإرهاب" هو سحب شرعية الرواية الفلسطينية نفسها، وكل وسائل مواجهة الخطة التي يرفضها الرئيس الفلسطيني. ويجب التذكير أن المقاومة المسلحة وضعت فلسطين على خريطة العالم السياسية بعد النكبة، وهو أمر يعرفه أبو مازن تماما، لأنه صوّت في حينها على بدء حركة فتح عمليات مسلحة، كإعلان رسمي لانطلاقها ليلة رأس السنة عام 1965. ويجب التذكير بأنه في غياب قيادة موحدة وذات رؤية تحرّرية، لن ينتظر الشباب والشابات الفلسطينيون والفلسطينيات قرارا رسميا ببدء عملياتٍ ضد الجيش المحتل، والوضع مرشّح لعودة العمليات الفردية التي شهدنا عددا منها في الأعوام الماضية، فنموذج الشهيد باسل الأعرج، وكل شاب اختار أن يرفع السلاح بوجه المحتل، راسخ في أذهان الجيل الجديد.
وعليه، إن تبجّح الرئيس الفلسطيني بمعلومات شاركها مع جهاز الشاباك (الأمن الداخلي) الإسرائيلي مهين ومشين. قد لا يكون الكفاح المسلح الأنسب في هذه المرحلة، ولكن قد تنضج ظروف تجعله خيار الشعب الفلسطيني، إذ إن الخطة الأميركية هي إعلان حرب شاملة ومتسارعة، ومن دون تجميل أو مواربة على وجود الشعب الفلسطيني نفسه. وشاء أبو مازن أم أبى، فإن استمرار مثل هذا التعاون الأمني هو مشاركة في هذه الحرب الإجرامية على الشعب الفلسطيني، فوقف التعاون الأمني مع الجانب الإسرائيلي يجب أن يكون عملياً وليس لفظياً، ولم ير الفلسطينيون أو العالم مؤشّرا على صدقية كلام القيادة الفلسطينية بقطع الاتصالات مع دولة الاحتلال، فكيف تنتظر من الدول العربية التي تجاهر بالتطبيع مع إسرائيل، بل وأيضا العمل ضد الشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية نفسها، أن ترتدع إذا كان رئيس فلسطين يتحدّث وفقا لمفهوم الأمن الإسرائيلي؟ لا يعني ذلك إعطاء تبريرات لعملية التطبيع المتسارعة والانخراط في المخطط الأميركي، وإنما لا يحق للرئيس الفلسطيني، ولأي مسؤول فلسطيني، ترويج العلاقات الأمنية الإسرائيلية، خصوصا أن الولايات المتحدة وإسرائيل تحاولان مأسسة الحلف الأمني العربي الإسرائيلي، تقويضا للأمن الاستراتيجي للشعب الفلسطيني، والأمن القومي العربي.
يعيق استمرار المطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني المخطط الأميركي الإسرائيلي تقويض الأمن القومي العربي، وتوظيف ذلك لأغراض إسرائيل ومصالحها. ولذا نرى محاولات فصل فلسطين عن محيطها العربي، وبث ثقافة التطبيع، أي جعل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين أمراً طبيعياً، لا علاقة له بالحقوق المشروعة والقانونية وغير القابلة للتصرّف لشعبٍ تحت الاحتلال، بل وهدف لعملية استعمارية استيطانية إحلالية عنصرية ممنهجة، واستبدال الحقائق برواية كاذبة مشوّهة عن أحقاد شعوب "متخلفة" و"عدم قبولها الآخر"، ورفضها الحضارة والمدنية"، بغرض قتل الرواية الفلسطينية والفكرة التحرّرية والاستقلالية في الوعي العربي.
القيادة الفلسطينية مطالبة بالوعي الكامل لدورها. وليس المقصود هنا السلطة الوطنية وقيادة حركة حماس والفصائل الفلسطينية، بل كل النخب الفلسطينية، فلا يمكن الهروب من هذا الدور الطليعي. وليست الدعوة هنا إلى انتفاضة فلسطينية ثالثة، مع أننا نرى انتفاضات صغيرة هنا وهناك، فالانتفاضة لا تحدث بكبسة زر، إضافة إلى أننا في خارج أرض فلسطين، لا يحق لنا أن ندفع الشعب الفلسطيني إلى أتون التضحيات، ونحن نشجع من بعيد، كأننا نشهد مباراة كرة قدم. وإنما في حال انطلاقة انتفاضة، فالخوف عليها من قرارات السلطة الفلسطينية نفسها، ومن حصار عربي سيسعى إلى خنقها.
المطلوب أولاً وقف التنسيق الأمني، وتنسيق اجتماعات للفلسطينيين في كل العالم، وجعل حق عودة اللاجئين الفلسطينيين شعارا موحدا لكل فئات الشعب، فهذا الحق هو جوهر القضية الفلسطينية. أما حل السلطة الوطنية فيجب أن يكون خطوة ضمن استراتيجية تحرّرية مدروسة، خصوصا أن بعضهم أخذ يدعو إلى حل السلطة الفلسطينية، لتوريط الأردن في قبول الإدارة الأمنية لما يتبقى من الأراضي الفلسطينية، بعد عمليات الضم والقضم الإسرائيلية. السلطة فاشلة وعاجزة، بل معرقلة لرؤية تحرّرية. هذا صحيح، ولكن آن الأوان للضغط باتجاه برنامج استراتيجي، يقرّر فيه الشعب الفلسطيني كل خطواته، بما فيها حلّ السلطة، وإعادة الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها إطارا جامعا لا يقصي أحدا من الشعب الفلسطيني، ويمثل الجيل الجديد من الفلسطينيين.
ليس المقام هنا هو التقليل من أهمية رفض الرئيس أبو مازن الخطة الأميركية، ولا رفضه استقبال مسؤولي الإدارة الأميركية، ولكنه ما يزال يعبّر عن عقلية مهادنة ومحبطة، لا يمكن أن تقود هذه المرحلة. تعب أبو مازن، وفشل رهانه على اتفاق أوسلو، بل كانت لهذا الرهان نتائج مدمرة. ويجب أن يُخلي مكانه لقيادة فلسطينية جماعية، يكون جيل الشباب عمادها، ولا يكون الإحباط عنوانها.