بقلم: احمد عبد الرحمن
لا نبالغ إذا قلنا إنَّ الشعب الفلسطيني على مختلف توجهاته وانتماءاته السياسية، وفي كل أماكن وجوده في الداخل والخارج، كان من أكثر المتابعين لقضية سقوط الطائرة العمودية الإيرانية التي كانت تقلّ الرئيس الشهيد إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان والوفد المرافق لهما، إذ بقيت هذه المتابعة وهذا الاهتمام الكبير وغير المسبوق مستمرين على مدار أكثر من 15 ساعة متواصلة قبل الإعلان عن وفاة الرئيس ومرافقيه، ما شكّل صدمة للكثير من محبي الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وخصوصاً رئيسها المخلص والشريف ووزير خارجيتها العاشق لفلسطين والمنتصر دوماً لمظلوميتها في كل الميادين الدبلوماسية.
لقد وقع خبر استشهاد الرئيس الإيراني والوفد المرافق له كالصاعقة على قلوب كل المحبين، ولا سيما في هذه المرحلة الصعبة والحاسمة التي تمر بها القضية الفلسطينية، وخصوصاً في ظل ما يتعرّض له قطاع غزة من حرب صهيوأميركية مجنونة أدت حتى هذه اللحظة إلى استشهاد وإصابة عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وإلى دمار هائل في البنى التحتية وكل مناحي الحياة في القطاع الصغير والمحاصر.
لقد كانت إيران، ومنذ الثورة الإسلامية قبل أكثر من 45 عاماً، إلى جانب فلسطين قلباً وقالباً، وأفردت لهذه القضية من وقتها وجهدها وإمكانياتها الشيء الكثير، وتعرّضت من جرّاء ذلك لحصار وضغط هائلين أثَّرا في كل مناحي الحياة فيها، ولا سيما من قبل رأس الشر والإرهاب الولايات المتحدة الأميركية، وباقي حلف الشر في العالم، والذي ربط على الدوام بين تخلّي الجمهورية الإسلامية عن موقفها الداعم والمساند لفلسطين ورفع العقوبات عنها وتمكينها من استغلال مواردها الطبيعية الهائلة، بما يجعلها من أغنى الدول في العالم، وهو الشيء الذي رفضته إيران، وما زالت، مفضّلة التضحية التي وصلت في بعض المراحل إلى افتقادها الغذاء والدواء على أن تترك ما تعتبره قضية عقائدية بالنسبة إلى النظام الإسلامي وعموم الشعب الإيراني المسلم والعزيز.
من جملة ما تعرّضت له إيران بسبب مساندتها القضية الفلسطينية وكل قضايا المظلومين في العالم هو حرمانها من تحديث أسطولها الجوي، كما هي الحال مع مختلف المجالات الأخرى التي تحتاج إلى أدوات وقطع غيار من الغرب المجرم، بعدما تهالكت طائراتها مع مرور السنين، ما سبّب كوارث كثيرة أدت إلى سقوط مئات الشهداء من المدنيين الإيرانيين، كان من بينهم الحادث الأليم والمفجع الذي وقع أمس، والذي ندعو الله أن يكون آخر المصائب والملمّات التي تُصيب هذا الشعب المؤمن والشريف.
هذا الحادث الأليم يدفعنا إلى التأمّل من جديد في الأسباب التي تجعل إيران تقدّم كل هذه التضحيات من أجل مناصرة فلسطين والدفاع عنها في مختلف الميادين، وصولاً إلى تفضيل مساندة هذه القضية المحقّة والمشروعة على رفاهيّة شعبها، وعلى تحوّل هذه الجمهورية العظيمة إلى واحدة من أغنى دول العالم وأحدثها، ولا سيما أنها تملك كل الإمكانيات التي تؤدي إلى ذلك.
وحتى لا نتوه في هذه اللحظات الحزينة والمؤلمة في زواريب استذكار الأسباب وتحليلها، لنشِر إلى النظرة الإيرانية إلى القضية الفلسطينية، والتي أعلن عنها الامام الخميني (رحمه الله) منذ انتصار ثورته الإسلامية على نظام الشاه العميل، إذ أعلن بشكل واضح ولا يقبل التأويل أن فلسطين بالنسبة إلى النظام الإسلامي في إيران هي قضية عقدية ومركزية لا يمكن التخلّي عنها أو المساومة عليها، مهما كانت المغريات أو ارتفعت وتيرة الضغوطات.
وقد استمرت هذا الرؤية بعد وفاة الإمام الخميني، ولم يتم التراجع عنها أو التنازل عن أيٍ من مبادئها، بل ربما ارتفعت وتيرتها وازداد نسقها بشكل واضح، ولا سيما بعد انتهاء حرب الخليج الأولى التي حاول من خلالها الغرب الاستعماري بزعامة أميركا وأد الثورة الإسلامية في مهدها والضغط عليها في عقر دارها، بعدما فشل في منع انتصارها وتحوّلها إلى ملهم لكثير من الشعوب في العالم.
لقد ساهم الجهد الإيراني الكبير والمؤثر بقوّة في صمود الشعب الفلسطيني في وجه حرب الإبادة التي تعرّض لها، وما زال، ولا نبالغ إذا قلنا إنه لولا الدعم الإيراني السياسي والعسكري والإعلامي والمالي لكان حال القضية الفلسطينية أسوأ بكثير مما هي عليه اليوم، وإن ما باتت المقاومة الفلسطينية تشكّله اليوم من قوة حقيقية على الأرض تستطيع من خلالها إلحاق الهزيمة بالعدو وكسر شوكته ما كان ليتحقق لولا الدعم الإيراني السخي والكبير. هذا الأمر يظهر جلياً في أيامنا هذه، حيث الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني وقواه المقاومة في وجه حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة منذ أكثر من 7 أشهر ونصف شهر، والتي تقف إيران في القلب منها، على الرغم من محاولات البعض إنكار ذلك أو التقليل من شأنه.
ولأن المقام لا يتّسع للإبحار في تفاصيل الموقف الإيراني من فلسطين وقضيتها العادلة، والذي أفردنا له قبل ذلك الكثير من المقالات والكتابات، ولا للبحث في التداعيات والآثار المحتملة لهذا المصاب الجلل، فإننا سنكتفي بما سبق، مدفوعين بكثير من الحزن والألم الذي يسيطر على كل جوارحنا بعد تأكيد خبر استشهاد الرئيس الإيراني ومرافقيه، داعين المولى عز وجل أن يرحم الشهداء، وأن يلهم أهلهم وذويهم وعموم الشعب الإيراني وقيادته العزيزة والموقّرة جميل الصبر والسلوان.
نحن على تمام الثقة بأن هذا الفقد الكبير لن يفتّ في عضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية وقيادتها الرشيدة، ولن يؤدِ بأي حال من الأحوال إلى تراجع أو انهيار مشروعها المساند لكل حركات التحرّر في العالم والمعادي للهيمنة الأميركية الظالمة والمجرمة.
هذه الجمهورية العزيزة والمقتدرة تملك من دون أدنى شك كل ما يؤهلها للمضي قدماً في هذا الطريق المحفوف بكثير من المصاعب والعقبات، غير عابئة بنباح الحاسدين، ولا بحصار قوى البغي والاستعمار، مستلهمة سيرة مفجّر ثورتها الأول والآلاف من شهدائها العظماء الذين سقطوا على طريق تحرير القدس وفلسطين.
وداعاً صديق فلسطين ومحبّها الشهيد إبراهيم رئيسي. لقد كنت منذ ريعان شبابك محباً لها ومدافعاً عنها. وداعاً حسين أمير عبد اللهيان؛ الدبلوماسي الأمين الذي جاب العواصم وتنقّل بين بلدان العالم مسانداً لها ومنافحاً عنها في وجه العدوان الصهيوني.
وداعاً لكل شهداء إيران العزيزة الذين وقفوا على الدوام في الصف الأول لنصرة فلسطين وشعبها، وما تركوا هذا الطريق في يوم من الأيام، رغم ما بذلوه من جهد، وما عانوه من مشقّة وتعب.