أنا أتفهم حالة الإحتقان الشعبي عند الكثير من أبناء شعبنا الفلسطيني وبالذات أهل القدس منهم، كردات فعل وحالة إحباط من تصريحات وبيانات وخطابات ومقابلات العديد من قادة السلطة الفلسطينية، والتي تتعارض مع أغلب مكونات الشعب الفلسطيني، والتي لا تكون معبرة عن هموم وتطلعات شعبنا،
أو يشتم منها الإنتقاص والتفريط بحقوقنا، أو أنها تطلق في الزمان والتوقيت الخاطئين، ففي ذروة العدوان على شعبنا بإستباحة بشره وحجره وشجره وحيواناته، من غير المعقول أن تقدم القيادة على تصريحات وبيانات وخطابات عن قدسية التنسيق الأمني أو أن يصبح جلّ اهتمامها وتركيزها البحث عن ثلاثة مستوطنين إختفت آثارهم، مأسورين إفتراضياً حتى اللحظة لدى حركة "حماس" أو غيرها من فصائل المقاومة، في وقت يختطف فيه الإحتلال شعب بأكمله، والهباش واحد من الشخصيات التي لا تشكل عنوان توافق أو تحظى بثقة شعبنا، لكون هذا الرجل يشعر الكثيرون بأن تصريحاته تأتي في إطار الدفاع عن مصالحه وموقعه والتبرير وإيجاد الذرائع للسلطة في كل ما تقوله أو تنشره فيما يخص قضيتنا وحقوق شعبنا، وتصريحاته وبياناته وخطبه تحمل طابعاً توتيرياً وتسهم في بث الفرقة والإنقسام وليس الوحدة، ورغم إختلافي بالمنطق والموقف السياسي والرؤيا والمنهج والفكر مع الهباش، ولكن ما حدث أمس في المسجد الأقصى من محاصرة العديد من الشباب المقدسي الغاضب له، ومطالبته بالخروج من المسجد الأقصى لكونه غير مرغوب فيه، فهذا ما أود التطرق له كون العملية تكررت في المسجد الأقصى أكثر من مرة، وكادت ان تصل بالأمور إلى مستوى الفتنة الشاملة، والتي تأكل الأخضر واليابس.
علينا أن نتفق ونتوافق جميعاً بأن المسجد الأقصى، هو مكان ديني مقدس حصرياً للمسلمين دون غيرهم، يقصده المسلمون على اختلاف مشاربهم ومنابتهم الفكرية والسياسية من أجل الصلاة والعبادة وتأدية الشعائر الدينية، وطلب المغفرة والرحمة، ونيل الأجر والثواب، ولا أحد يمتلك الحق في تكفير أو تخوين أحد، او منع من يأتي للمسجد الأقصى طلباً للمغفرة والأجر والثواب أو التوبة أو التكفير عن ذنب أو معصية إرتكبها، مع إدراكنا بأنه قد يأتي إلى المسجد الأقصى في شهر رمضان الفضيل وغيره من الأشهر من هو مطعون بوطنيته أو مسلكه أو تصرفاته، وهذا علينا أن ننبه ونحذر المصلين والقادمين إلى المسجد منه، بأن قصده أو قدومه قد يكون لغاية أو سبب غير طلب الرحمة والمغفرة، أو لربما يريد التوبة والمغفرة حقاً. أما من كان معروفاً للمصلين بأنه يقف في خانة معادية لأبناء شعبه ويريد الإساءة والشر بهم، فواجب الجميع أن يقف ضده وليس هذه الفئة أو تلك.
وفي سياق آخر على ضوء ما نعيشه من حالة خلاف وإنقسام سياسي، فمن الضروري أن لا تعكس تلك الحالة نفسها على المسجد الأقصى، فهو مكان للعبادة وتأدية شعائر وفروض دينية والتقرب إلى الله، لا يمتلك فيها أي طرف أن يكفر أو يخون طرف أو فئة أخرى، أو أن يفرض رؤيته ومنطقه ووجهة نظره السياسية أو رؤيته الفكرية على مجموع المصلين، أو أن يقوم برفع صور ويافطات سياسية من شأنها أن تحدث حالة بلبلة وفراق وخصام، وقد تدفع بالأمور نحو الفتنة والإقتتال الداخلي، وتحول المسجد الأقصى إلى ساحة للمزايدات ورفع الصور والشعارات واليافطات السياسية، على حساب قدسيته كمكان ديني.
وقد حدث في أكثر من حادثة أن وصلت الأمور حد التشابك والعراك بالأيدي والتطاول اللفظي، وكادت الأمور أن تخرج عن السيطرة، ففي ذورة ما حصل من خلاف على الساحة المصرية، العام الماضي بعد أن أسقط المصريون حكم مرسي والإخوان، وبغض النظر نتفق أو نختلف مع ذلك، وجدنا بأن البعض يريد نقل هذا الخلاف إلى المسجد الأقصى من خلال رفع شعارات سياسية وصور الرئيس المخلوع مرسي، وهذا بحد ذاته ساهم بدفع الأمور نحو الإحتقان، وكادت الأمور أن تخرج عن السيطرة لولا تدخل العقلاء، وكذلك هناك من يستغلون المسجد الأقصى دائماً لرفع يافطات وإطلاق شعارات تقدح وتذم وتكفر وحتى تخون الآخرين، وهنا واجب إدارة الأوقاف أن توضح للجميع في إطار صلاحياتها ومسؤولياتها، بأنه المطلوب الحفاظ على قدسية هذا المكان، كمكان لممارسة الشعائر الدينية.
ولذلك وبعيداً عن حادثة الهباش، فإنني أرى بأنه لا يجوز ولا يحق لأي كان، أن يقوم بممارسات أو أفعال، قد يكون ضررها وأثرها السلبي أكثر من فائدتها وقد تترك إنعكاسات كبيرة وخطيرة، ليس على المصلين أو المتخاصمين، بل قد تكون النافذة التي يستغلها الإحتلال لتنفيذ مخططاته بالسيطرة على المسجد الأقصى لجهة التقسيم الزماني والمكاني، أو لجهة الهدم وإقامة الهيكل المزعوم.
الجميع عليه أن يدرك ويتنبه بأن الأقصى في خطر جدي، وهو بحاجة ماسة جداً إلى وحدتنا وتكاتفنا، من أجل حمايته والدفاع عنه، فكل يوم أصبح يجري إقتحامه من قبل المجموعات والجمعيات الإستيطانية، وليس بشكل فردي، بل وبشكل جماعي، ويتقدمهم أعضاء برلمان "كنيست" ووزراء وحاخامات وغيرهم، يدخلون تحت حماية وحراسة الشرطة والجيش، يدنسون المسجد الأقصى ويؤدون طقوس وشعائر تلمودية وتوراتية في ساحاته، وأكثر من ذلك ممارسة أفعال فاضحة، مخلة بالآداب والأخلاق، ووصل الأمر أن يصعد الحاخام المتطرف "يهودا غيلك" إلى قبة الصخرة المشرفة ويرفع العلم الصهيوني، ويلوح به، وأصبحت الدعوات لهدم المسجد الأقصى علنية، والتقسيم الزماني نجده قائم على الأرض، ولذلك علينا جميعاً أن نحكم العقل وبعد النظر والبصر والبصيرة، وأن لا نفقد اتجاه البوصلة، وكذلك أن لا نحرف معركتنا الأساسية من معركة الدفاع عن قدسية المسجد الأقصى وإسلاميته إلى معركة داخلية تستنزف جهودنا وتعمق شرخ الإنقسام في صفوفنا، فالإحتلال يتربص بنا جميعاً، وعلينا أن نتمثل ونعتبر من تصريحات قادة "دولة إسرائيل"، بأنه لو أحضر الرئيس عباس رأس قادة "حماس" على طبق من ذهب، فالإستيطان لن ولن يتوقف، وكذلك سمعنا الكثير من التصريحات الإسرائيلية بحق رئيس السلطة الفلسطينية، عندما توجه إلى الشروع في تحقيق المصالحة وحكومة "الوفاق" الوطني، فمنهم أمثال بينت وليبرمان من دعا إلى قتله أو طرده.
هم لا يريدون أن يقدموا أية تنازلات جدية من أجل "السلام"، لا بالمفاوضات ولا من خلال الأمم المتحدة، ولذلك نحو بحاجة لمراجعة جدية شاملة لكل المسار السياسي السابق، وبحاجة إلى وحدة وطنية حقيقية، ليس مجرد شعارات و"فذلكات إعلامية".
الأقصى يجب أن يجمعنا ويوحدنا لا أن يفرقنا، وحتى شعورنا نحن المقدسيين بالظلم والغبن من أبناء جلدتنا، يجب أن لا يفقدنا تجاه البوصلة أبداً، فالعنوان الأول والأخير والمسؤول عن تدميرنا، والمستهدف لنا ولأقصانا ومقدساتنا وأرضنا وشعبنا هو الإحتلال.
* كاتب ومحلل فلسطيني يقيم في مدينة القدس