Menu
فلسطين - غزة °-18 °-18
تردد القناة 10873 v
بنر أعلى الأخبار

حركة الجهاد الإسلامي ومسألة "الابارتهايد"

قناة فلسطين اليوم / وكالات

"الصراع مع الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين، هو صراع وجود لا صراع حدود، ولا صراع ضد نظام تمييز عنصري “أبارتهايد”. فـ «إسرائيل» موجودة لتغييب فلسطين من الوجود، واليهود الغرباء موجودون حيث هم، لأن الفلسطينيين، أصحاب الأرض الشرعيين، طردوا من أرض أبائهم وأجدادهم بقوة السلاح وبالإرهاب الصهيوني" (وثيقةحركة الجهاد الإسلامي، 2018، "المشروع الصهيوني" الفقرة 9)

تُعتبر حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين الحركة السياسية الفلسطينية الوحيدة التي رفضت بشكل واضح اعتبار الكيان الصهيوني نظام "تمييز عنصري" (ابارتهايد) لأن"إسرائيل" موجودة لتغيب فلسطين من الوجود"ما يعني أن السمة الأساسية للمشروع الصهيوني هي إلغاء فلسطين وإحلال الكيان الصهيوني مكانها، وإحلال اليهود الصهاينة مكان الشعب الفلسطيني، وقد تم تغييب فلسطين (أو هذا ما يسعى اليه المشروع الصهيوني) كأرض وشعب وتاريخ وجغرافيا: سرقة الأرض، القتل والتهجير، تزوير التاريخ ونفي الأمة".تعبير "وجود "إسرائيل" لتغييب فلسطين" هوالوصف الدقيقللاستعمار الاستيطاني الاحلالي الذي تحدث عنه العديد من الباحثين، وقارنوا بينهوبين الوجود الاستعماري الأوروبي في أستراليا وأميركا ومناطق أخرى (افريقيا الجنوبية والجزائر على سبيل المثال).

لم ينف أغلب الباحثين صفة الاستعمار الاستيطاني عن الكيان الصهيوني، لكن أضاف بعضهم صفة "الأبارتهايد"، وميّزوا بين الماضي والحاضر، أي أن الكيان الصهيوني مارس التطهير العرقي الذي يعدّ من أبرز مكوّنات الاستعمار الاستيطاني، سابقا، لكنه اليوم، يمارس التمييز العنصري. ماذا يعني إقحام مسألة "الابارتهايد" في الصراع اليوم؟

جاء الغزاة الصهاينة الى فلسطين المحتلة،ضمن مشروع استعماري غربي يطمح الى إخضاع المنطقة العربية كلها، وتفتيت مجتمعاتها وترسيخ تبعيتها للنفوذ والمصالح الغربية، بحيث يصبح الكيان اليهودي الصهيوني المركز الأساسي لإخضاع شعوب الأمة، نظراللأهمية الجغرافية والدينية والمعنوية التي اكتسبتها فلسطين لدى العالم ولدى الأمة، بسبب المقدسات الإسلامية (أهمها المسجد الأقصى المبارك) والمسيحية (أهمها كنيسة القيامة).

أضاف الصهاينة على مشروعهم الاستعماري الاستيطاني سمة دينية و"تاريخية"، لشرعنة وجودهم على أرض شعب آخر وجذب المستوطنين اليهود من أصقاع العالم الى كيانهم، وذلك بمباركة ومساهمة الامبريالية العالمية التي تبنّت الادعاءات الدينية والتاريخية الصهيونية وشارك علماؤها في صياغتها بطمس وتزوير الحقائق.

بهذا المعنى، لم تعد الصهيونية كمشروع استعماري وممارسة استيطانية إلغائية محصورة في فلسطين بل أصبحت ممارسة ومشاركة عالمية، تجلّت في اعتراف الأمم المتحدة بهذه المستوطنة اليهودية على أرض فلسطين في قرار التقسيم (نوفمبر/تشرين الثاني 1947). بالتالي، يتميّز الصراع العربي – الصهيونيعن المستعمرات الاستيطانية الأخرى بهذه السمة، كونه صراع له امتداد عالمي، كما أكدته سابقاً ومؤخراً الإجراءات السلطوية القمعية في الدول الغربية ضد حرية التعبير والتضامن مع الشعب الفلسطيني وحقه بأرضه.

فشل المشروع الصهيوني بإلغاء و"تغييب" فلسطين والشعب الفلسطيني، بسبب أولا، مقاومة الشعب الفلسطيني الذي رفض اختفاءه عن المسرح ورفع شعار التحرير، وثانيا ارتباطه بشعوب الأمة التي شعرت بأن وجود كيان صهيوني في قلبها يهدّد حاضرها ومستقبلها، وحتى تاريخها الذي يتم تزويره وتهويده، وآخر مثال على ذلك أطروحة الدين "الإبراهيمي" الذي يجعل من اليهود و"التاريخ اليهودي" أصل المجتعمات في المنطقة[i].

أدى فشل إلغاء فلسطين والفلسطينيين الى بلورة مشاريع تسوية تقدم فتافيت سياسية واقتصادية للشعب الفلسطيني مقابل إدامة الهيمنة الغربية الصهيونية على العالم العربي والإسلامي وبقاء الكيان الصهيوني ككلب حراسة لهذه الهيمنة، مع إمكانية توسّعه عبر اتفاقيات تطبيع العلاقات معه من قبل دول عربية وإسلامية، بعد فشله في احتلال الأراضي "التوراتية" من النيل الى الفرات.

بسبب تجاوب بعض الأطراف العربية والفلسطينية مع هذه المشاريعكونها مرتبطة بالولايات المتحدة الأمريكية، والتخلي عن واجب ومهمة التحرير، تحرير الأرض والانسان من الغزو والهيمنة والتبعية، تشوّشت الرؤية كما تقول حركة الجهاد الإسلامي في وثيقتها، وخيّمت الفوضى الفكرية على المشهد الفلسطيني. فتدفقت على الساحة الأطروحات والاقتراحات لحل الصراع بعيداً عن استراتيجية تحرير فلسطين وطرد الغزاة. فكان مفهوم "الأبارتهايد الإسرائيلي" ومحاربته أحد أبرز وأحدث هذه الطروحات.

ماذا يعني "الأبارتهايد"؟.. وهل يمارس الكيان الصهيوني "الأبارتهايد"؟ لماذا اتخذ هذا المفهوم رواجاً واسعاً بين المثقفين والمناضلين والناشطين الفلسطينيين مؤخراً، حتى بات يطرح كاستراتيجية نضالية للشعب الفلسطيني[ii] ؟اين تكمن أهمية (خطورة) تعريف كيان الاحتلال بدولة الأبارتهايد؟ وما هو تأثير هذا التعريف على الهدف الاستراتيجي للشعب الفلسطيني، الذي يسعى الى تحرير أرضه ووطنه من الاحتلال أو الغزو الصهيوني؟ هل ثمة تعارض بين التحرير من جهة وتبني هذا التعريف وحشد المجتمع لإسقاطه من جهة أخرى؟

وما هي الأسباب التي جعلت حركة الجهاد الإسلامي ترفض تبني مفهوم "إزالة الابارتهايد" كخيار استراتيجي لصراع الشعب الفلسطيني مع الكيان الصهيوني الإحلالي؟

الأبارتهايد "الإسرائيلي"

منذ أكثر من عقد من الزمن، يعتبر ناشطون سياسيون وإعلاميون فلسطينيونأن الكيان الصهيوني يمارسالفصل العنصري (أبارتهايد).قد تم مؤخرا دعم هذا التعريف من قبل جهات دولية، كالمنظمات المدافعة عن حقوق الانسان (أمنستي، هيومن رايتس ووتش، بيتسالم)، وقبلها، من قبل منظمات وأحزاب يسارية غربية داعمة لحقوق الشعب الفلسطيني، حتى بات يشكّل شبه اجماع لدى داعمي القضية الفلسطينية في العالم.

فلسطينيا، كثر الحديث عن "جدار الفصل العنصري" وحديثاً، بات سياسيون وناشطون وإعلاميون يذكرون "دولة الأبارتهايد" في كل المناسبات، اعتقادا منهم أن التأكيد على هذا الوصف سيلحق الضرر في سمعة الكيان الاستعماري الاستيطاني وسيتم عزله، كما عُزل "نظام الأبارتهايد" في جنوب أفريقيا قبل ثلاثة عقود من الزمن.

صاغ مصطلح "الأبارتهايد" المستوطنون الأوروبيون في أفريقيا الجنوبية بلغتهم (الأفركانر) للتعبير عن إرادة فصل أو عزل ذاتهم ومجتمعهم عن المجتمعات الأصلية التي غزوا أرضها، ما يعني أن هذا المصطلح يعبّر عن نظرة المستوطن الى المجتمع الأصيل، وهي نظرة عنصرية فوقية أفرزتها الحضارة الأوروبية الغربية. بالمقابل، اعتبرت المجتمعات المستهدفة أن هذه الجماعات الغازية همجية، عنيفة، تقتل وتدمّر وتستولي على الأرض بالقوة وتطرد سكانها. فسارعت الى مقاومتها لطردها. لكن، في بعض المناطق، في البداية، تودّدت اليها وحاولت إقامة معها علاقات نديّة، وخاصة تجارية. في البلاد التي أصبحت لاحقا "كندا"، تعاملت المجتمعات "الهندية" مع الغزاة بشكل ندّي في بادئ الأمر، كما جاء في كتاب الباحث الكندي سيرج بوشار[iii]: اعتبرتهم مهاجرين وتجار، ورفضت الانصياع لأوامرهم في حين كان الغزاة يعتقدون أن مجرد وجودهم على بقعة من هذه الأرض يعني بسط سيادتهم عليها، كونهم "بيض" و"متفوقين" ومسلّحين.

لكن الأساس كان مقاومة الغزاة وطردهم عندما توضّحت نيّتهم الاستعمارية وتعاملهم الاستغلالي والعنصري، وليس التعايش معهم والرضى بوجودهم. هذا ما حصل في معظم حالات الاستعمار الاستيطاني، في القارة الأميركية واستراليا والجزائر وفلسطين. فمن جهة، نيّة الفصل ومن جهة أخرى، المقاومة وليس السعي للتعايش مع مجتمع الغزاة أوالاندماج به.

لا شك أن الكيان الصهيوني كيان عنصري، بمعنى أن الإيديولوجية المؤسسة له هي إيديولوجية عنصرية، تدافع عن "تفوّق العنصر اليهودي" على باقي البشر، وخاصة على العرب والمسلمين والفلسطينيين بالذات، إضافة الى أن الصهيونية وليدة الأيديولوجية الاستعمارية الغربية، التي ترى أن من حقها استعمار بلدان الآخرين غير الأوروبيين، واستغلال شعوبها لأن مجرد وجودهميجلب لهذه الشعوب التمدّن والحضارة، وهذا ما عبّر عنه الغزاة الصهاينةعند وصولهم الى فلسطين،محاولينإحباط المقاومةوإلغاء أسبابها. قد تتوسع هذه العنصرية داخل المجتمع الصهيوني لتطال اليهود الشرقيين وغير الغربيين عموما.

يمارس الكيان الصهيوني التمييز العنصري بشكل ممنهج.في أراضي 48، تميّز مؤسساته الرسمية وغير الرسمية بين من يجباعتبارهم متساويين، أي "المواطنين". التمييز بين المستوطنين اليهود والعرب الفلسطينيين في الكيان يمثل جوهر طبيعته ويطال كافة نواحي الحياة، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها، تطبيقاللمشروع الاستيطاني الصهيوني على أرض فلسطين وليس إضافة له. يمكن اعتبار تشكيل "لجان القبول" في المستوطنات في الداخل المحتل عام 1948 إحدى إفرازات هذا التمييز العنصري، التي تمنع أو تعرقل سكن الفلسطينيين فيها (إرادة فصل الذات عن الشعوب الأصلية)، بعد تفاقم الضائقة السكنية التي يعاني منها الفلسطينيون، بسبب سياسة التطهير العرقي والاستيطان الزاحف الى "المناطق العربية".

قد يفسّر بناء الجدار في الضفة وقطاع غزة والشمال الفلسطيني كمثال آخر للتمييز العنصري، لو لم يهدف بناءه أساسا الى سرقة مزيد من الأرض والموارد، فهي جدران استيطانية قبل أن تكون جدران تمييز عنصري.قد تكون "الطرق الالتفافية" في الضفة الغربية طرق فصل عنصري لأنها مخصصة للمستوطنين، لكن ولأنها طرق تهدف الى تفتيت التجمعات السكنية الفلسطينية (المدن وقراها)،وفصلها عن بعضها بعض، أصبح هدف تدمير المجتمع الفلسطيني بواسطة هذه الطرق يعلو على هدف فصل الذات الاستيطاني عن المجتمع الأصلي. يعني ذلك أن الفعل الاستعماري الاستيطاني هو الذي يفسّر الممارسة العنصرية ويطغى عليها، كما كان الوضع وما زال في الأراضي المحتلة عام 1948.

فلذلك، ترتبط مسألة الأبارتهايد (الفصل العنصري) بمسألة المواطنة أساسا. عندما تطرح مسألة الأبارتهايد "الإسرائيلي" كنظام يجب إلغاءه، كما طُرح قبله الأبارتهايد في أفريقيا الجنوبية، فيتم ربطها تلقائيا بمسألة المواطنة في "الدولة الواحدة" على أرض فلسطين أو"دولة جميع مواطنيها" على جزء منها، وهي الشعارات التي رفعت بعد اتفاقيات أوسلو، والتي استبعدت استراتيجية التحرير وطرد الغزاة، بعد أن تم نزع صفة الغزاة عن الغزاة كونها "جماعات عرقية ودينية" تعيش في البلادوقد تم الاعتراف بشرعية تواجدها في فلسطين من قبل "المجتمع الدولي". فأن رفع شعار إسقاط أو إلغاء نظام الأبارتهايد يعني بالضرورة المطالبة بالمواطنة وحقوق المواطنة المتساوية في دولة واحدة، إن كان اسمها "إسرائيل" أم "فلسطين-إسرائيل"، أم فلسطين. والملاحظ أنه عندما تطرح كلمة "مساواة" في سياق الصراع، يعني ذلك المساواة بين المستوطنين وأبناء البلد الأصليين، وليس المساواة بين الفلسطينيين أنفسهم، كما قد يتوهم البعض، كما جاء في "الرسالة الفلسطينية المفتوحة" لبعض المثقفين ضد محمود عباس: "..نضالنا من أجل السلام. العدالة والحرية والمساواة، وهو النضال الذي يقف ضد جميع أشكال العنصرية والقمع الممنهج."

فتح النقاش حول "الأبارتهايد الإسرائيلي" مجددا النقاش حول الغزو الصهيوني كغزو استعماري استيطاني شبيه بالغزوات والمستعمرات التي زرعها المستوطنون الأوروبيون في العالم. رفض بعض الباحثين توصيف الكيان الصهيوني بالاستعمار الاستيطاني لعدة أسباب، منها قانونية (لا يعترف القانون الدولي بجريمة الاستعمار الاستيطاني)[iv] ومنها لاعتبار أن مصير الشعوب المستهدفة هو الفناء الحتمي، كما تصوّروا مصير الشعوب "الهندية" (مقولة "لسنا "هنود حمر"). بالمقابل، تبنّاها آخرون بصيغ مختلفة،للتأكيد على أن وجود الكيان الصهيوني في فلسطين هو بحد ذاته جريمة بحق الشعب الفلسطيني، شبيهة بجرائم المستوطنات والمستوطنين الأوروبيين في العالم، وأن عصر "التنوير" الأوروبي كان عصر إبادة وإلغاء لشعوب العالم وحضاراتها (حضارة الأندلس الإسلامية)، وللتأكيد على نفي "الاستثناء اليهودي" الذي يصرّ عليه الصهاينة لتبرير جرائمهم وإرهابهم اليومي. أتاحت لهم متابعة النقاشات في أوساط الباحثين "الأصلانيين" الى الانتقال لمفاهيم أخرى طرحها هؤلاء،  كمعنى وجدوى مطالبة المستعمِر بالاعتراف بالمستعمَر، وإعادة صياغة التاريخ والحضارة والثقافة من وجهة نظر الشعوب الأصلانية، لاتنطلق من مركزية الغرب وتاريخ استعماره، ومسألة المواطنة والمساواةفي المستعمرة، وصوابية مفهوم الأبارتهايد "الأسرائيلي".

رغم أن مفهوم "الأبارتهايد" لم يكن شائعا في الأدبيات الفلسطينية قبل عقدين من الزمن،تعدّدت اليوم وجهات النظر حوله، حيث يضعه البعض الى جانب مفهوم الاستعمار الاستيطاني أو تابع له، أو بديل عنه، كل وفق انتمائه السياسي، لأن تبنّيه بإحدى الصيغ يعني في المحصلة تبنّي خيار معيّن للمسيرة النضالية (الكفاحية، الجهادية) الفلسطينية.كيف أُدخل هذا المفهوم الى الصراع العربي – الصهيوني ؟

تسرّب مفهوم الأبارتهايد الى الصراع عبر ثلاث قنوات، الأولى هي مأزق "حلّ الدولتين" بعد اتفاقيات أوسلو بسبب توسّع الاستيطان في الأراضي المحتلة عام 1967 وإلحاق اقتصادها بالكيان الاستعماري وتجزئتها الى معازل سكانية يسيطر عليها جيش الاحتلال، والبحث بالتالي عن "تسوية سلمية" لهذا الصراع، تحت المظلة الدولية. فبدأ الحديث عن الدولة الواحدة، بصيغ مختلفة، تتراوح من "دولة إسرائيل الكبرى" من النهر الى البحر، الى كونفدرالية بين "الشعبين" (مع الأردن أحيانا)، أو "دولة ثنائية القومية"، أو دولة واحدة لجميع مواطنيها تؤمن الحقوق المتساوية للمستوطنين القدامى والجدد والشعب الفلسطيني الأصلي، بعد إسقاط الصهيونية في بعض هذه الطروحات، أو التمييز بين "القومية" اليهودية المستحدثة صهيونيا والفكر الصهيوني كما يفعل تلاميذ د. عزمي بشارة، من أجل إقامة "دولة واحدة"[v]، ما يعني أن طرح مفهوم الفصل العنصري "الأبارتهايد" جاء في سياق البحث عن تسوية تلغي مشروع التحرير الفلسطيني والعربي.

القناة الثانية هي إلغاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا واستبداله بدولة لجميع مواطنيها، حيث حلّت مسألة المواطنة بديلا عن التحرير من الاستعمار الاستيطاني. فاعتُبر إلغاء نظام الأبارتهايد انتصارا، ليس فقط في جنوب أفريقيا، بل في العالم، بسبب مشاركة الشعوب في حملة مقاطعة النظام العنصري ومحاصرته دوليا.اتخذت بعض النخب السياسية والمجتمعية الفلسطينية هذه التجربة كمثال لنضالها ضد الكيان الصهيوني وركّزت على مسألة المواطنة عوضا عن مسائل أخرى أساسية، مثل سرقة الأرض وأقامة المغتصبات عليها، والأوقاف، وتهجير الشعب الأصلي والحلّ مكانه، والهوية المنبثقة عن التاريخ والجغرافيا والمعتقد الديني والمقدسات.ويدعم هذا الاتجاه حملة المقاطعة "بي دي اس" التي تطالب بتطبيق القانون الدولي لمحاسبة الكيان الصهيوني على جرائمه، دون التطرق الى مسألة المقاومة وتحرير الأرض الفلسطينية وعملية تهويد المقدسات والتاريخ وربط فلسطين بالأمة.

القناة الثالثة هي العولمة وما أفرزته من صيغ لحلّ الصراعات القومية،دون النظر الى خصوصية الاستعمار الاستيطاني، نشأته وإيديولوجيته من ناحية وحقوق الشعوب المستعمَرة في أرضها ومواردها وحريتها من ناحية أخرى. فاعتبار الصراع مع الغزو الاستيطاني صراع بين قوميتين، أفضى الى اعتبار أي تسوية تكريسا لوجود الكيان الاستيطاني وتجميل صورته الفظة والعدوانية. فاعتبار الكيان الصهيوني "قومية يهودية" مقابل "القومية العربية والفلسطينية" يعدّ أولا شرعنة للوجود الصهيوني في فلسطين وثانيا، تزويرا لتاريخ الجماعات اليهودية في العالم وربطها تلقائيا بكيان استعماري. من جهة أخرى، صعدت أهميةمسألة المواطنة وما سمي بالمجتمع المدني، الذي أوكل اليه مهمة تشجيع وتوسيع وترسيخ مفهوم المواطنة في دولها.

في هذا السياق، أكّد الكاتب والخبير الأمميالأوغندي محمود ممداني، على أن حلّ الصراعات القومية يكمن في مفهوم المواطنة المتساوية في الدولة، كما أكّد على ضرورة "إلغاء سمة الاستعمار عن السياسة"[vi]، أي أن تكون هذه المواطنة خارج سياق التاريخ والحضارة. تشكّل هذه المواطنة الجديدة المجردة من الهويةأساس التسوية المراد تحقيقها بين الشعوب الأصلية وكيان المستوطنين. من جهة، إلغاء التمييز بين المواطنين ومن جهة أخرى، إنهاء مشروع التحرير وفتح صفحة جديدة خارج السياق التاريخي والسياق الجغرافي (تاريخ ما قبل الصراع ووجود الأمة وعلاقتها مع فلسطين والمقدسات).

ما يعني أن المواطنة المطروحة حديثا من أجل تسوية الصراعات "القومية" هي إحدى الوسائل لضرب حركات التحرّر ومنع التحرير. فتطالب الجهات المتبنّية لمفهوم الأبارتهايد، سواء أكانت دولية أو محلية، من حركات التحرّر، التخلي عن هدفها الاستراتيجي أي التحرر من الاستعمار الاستيطاني واستعادة أرضها وممارسة سيادتها عليها وعودة اللاجئين اليها، ونيل استقلالها الفعلي، مقابل الحصول على مواطنة متساوية في دولة ما.

هذا الحلّ المقترح ينبع أساسا من النظر الى مسألة الصراع: هل هذه المواطنة المجردة من التاريخ والهوية هي الحلّ،كما تقترح بعض قوى المجتمع الدولي ومنظري الديمقراطية في الدولة الحديثة والمواطنة، الذييعتبر"الأبارتهايد الإسرائيلي" عائقا امام التسوية، أمتمسك الشعب الأصلي بأرضه كاملة، وحقه بالحرية، وخوضه حرب التحرير لإزالة مجتمع المستوطنين؟

قد يساعد طرح مسألة الابارتهايد على توسيع الدعم العالمي لشعب فلسطين ونضاله ومحاصرة الكيان الاحتلالي، لكنه طرح مضلّل لأنه غير دقيق ويغطي على جريمة "التطهير العرقي" الأكثر فظاعة. تشبه هذه الحالة ما كتبته يوما الأكاديمية لنا طاطور حول اقتراح تصنيف أهل النقب كـ"شعب أصلاني" لدى الأمم المتحدة، من قبل مثقفين ومنظمات غير حكومية، من أجل الدفاع عنهم ومنع سرقة أراضيهم من قبل دولة الاحتلال. قد تكون هذه الخطوة إيجابية لحماية البدو في النقب، لكن من ناحية أخرى، السلبيات كثيرة، كونها تفصل بين بدو النقب وسائر الشعب الفلسطيني، وتجعل من قضية سياسية في الأساس قضية ثقافية:"وفقا لهذا المنطق، مشكلة الشعوب الأصلانية لا تكمن بوجود دولة استيطانية أو استيطان، بل بتصادم بين ثقافة ما قبل الحداثة ودولة حديثة."[vii]

فبعض سلبيات طرح مسألة الابارتهايد والنضال من أجل إلغاءه هي استبدال الأصل (الاستعمار الاستيطاني الإحلالي) بأحد فروعه (التمييز العنصري)، واستبعاد استراتيجية التحرير والتخلص من المستوطنين وداعميهم لصالح المشاركة معهم في إدارة البلاد، تحت العباءة الدولية، والدخول في تسويات ومآزق متتالية لحلّ مسائل أساسية كعودة اللاجئين والسيادة الخالصة الفلسطينية العربية الإسلامية و/أوالمسيحية على المقدسات، أي التمسّك بالتاريخ والهوية، إضافة الى مسألة الأوقاف والأرض التي سرقت من أصحابها بطريقة "شرعية" لدى الصهاينة. أمور كثيرة لا يحلّها إلغاء الابارتهايد وتبنّي المواطنة في دولة واحدة، بل يزيد الوضع تأزما.

حركة الجهاد الإسلامي

ما هي الأسباب التي جعلت حركة الجهاد الإسلامي ترفض تبني مفهوم "إزالة الأبارتهايد" كخيار استراتيجي لصراع الشعب الفلسطيني مع الكيان الصهيوني الإحلالي واستمرت في اعتبار أن تحرير فلسطين هو الهدف الاستراتيجي للشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية؟ تجيب "الوثيقة السياسية" (2018) على السؤال ويمكن ايجازها بثلات نقاط رئيسية إضافة الى أن "إسرائيل" وجدت لتغييب فلسطين: 1 - فلسطين جزء من الأمة العربية والإسلامية، ما يعني أن الشعب الفلسطيني متمسك بهويته وتاريخه، 2 - المشروع الصهيوني جزء من مشروع استعماري عالمي يهدف الى الهيمنة والتجزئة، ما يعني أن الصراع مع الغرب الاستعماري يتجاوز الأرض الفلسطينية التي احتلها الصهاينة، 3 - اليهود الغزاة لا يشكلون قومية.

المشروع الصهيوني بحد ذاته: "هو مشروع غزو استعماري استيطاني إحلالي، وهو مشروع عنصري عدواني توسعي"  و"الصراع مع الكيان "الإسرائيلي"، بكل ما يمثله، ليس صراعاً على الأرض أو الثروات أو الموقع الاستراتيجي فحسب، وهو ليس صراعاً طبقياً يصطف فيه العمال والكادحون من العرب واليهود ضد طبقة برجوازية أو رأسمالية، بل هو صراع حضاري شامل، مركب ومتعدد الدوائر، يحيط بكل المجالات والأبعاد الدينية والتاريخية والجغرافية والسياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والثقافية للحياة." ذلك يعني أن المواطنة المجردة من التاريخ والانتماء الحضاري لا تلبي هدف التحرير.

ارتباط الشعب الفلسطيني بشعوب الأمة العربية والإسلامية، ومتمسكبهويته التي تربطه بشعوب الأمة، تاريخيا وعقديا: "فلسطين أرض عربية إسلامية، وهي جزء من الوطن العربي والإسلامي الكبير، وللأمة العربية والإسلامية فيها حق طبيعي وديني وتاريخي، لا يجوز التفريط فيه أو التنازل عنه تحت أي ذريعة." و"ترتبط قضية فلسطين ارتباطاً مصيريا بكل قضايا العرب والمسلمين. ولن يتحرر العرب والمسلمون من واقع التجزئة والتخلف والتبعية، وكل مشاكلهم، ما لم تتحرر فلسطين".

تاريخيا، "خاضت الأمة العربية المعارك والحروب، وقدمت أجيالاً من الشهداء، من أجل تحرير فلسطين، التي اعتبرتها الأمة القضية المركزية للعرب والمسلمين." و"عدم تحقق «مركزية قضية فلسطين»، في الواقع العربي الرسمي والشعبي الراهن، وانشغال العرب والمسلمين بشؤونهم الداخلية وصراعاتهم الإقليمية، لا يلغي عروبة فلسطين وإسلاميتها، ولا يسقط أولويتها ومركزيتها، لأن قضية فلسطين هي القضية المركزية التي يتوقف عليها مصير العالم العربي والإسلامي ومستقبله."

المشروع الصهيوني مرتبط بالمشروع الاستعماري الغربي: "قيام الكيان "الإسرائيلي" هو تجسيد لإرادة القوى الاستعمارية الغربية، ورغبتها بإنشاء كيان بشري وجغرافي حاجز، لفصل مشرق الوطن العربي عن مغربه، وعزل مصر عن بلاد الشام، وسلبها مكانتها الإستراتيجية ودورها المركزي في المنطقة، ومنع قيام أي وحدة عربية أو إسلامية، وتكريس التجزئة والتبعية، وخدمة المصالح الاستعمارية الغربية."

والصراع مع المشروع الغربي في المنطقة صراع تاريخي: "اغتصاب فلسطين... هو جزء من الصدام التاريخي للغرب مع الإسلام"، و"الصراع على فلسطين لم يبدأ مع الصهاينة، فهو صراع تاريخي بين الغرب والأمة".

رفض التخلي عن الحق الفلسطيني الخالص المتمثل بتحرير فلسطين: "لأن الاعتراف بـ «الكيان» يعني إلغاء فلسطين من الوجود؛ والاعتراف بحق اليهود الغرباء في العيش والسيادة على أرض فلسطين، يعني عدم الاعتراف بالشعب الفلسطيني، وبحقه الأصيل في العيش والسيادة على كامل ترابه الوطني في فلسطين". و"ترفض الحركة كل محاولات دمج الكيان "الإسرائيلي" في المنطقة ككيان طبيعي".

هدف التحرير:"تؤكد حركة الجهاد أن الهدف الاستراتيجي لجهاد الشعب الفلسطيني ومقاومته هو استرداد كامل الأرض والحقوق، كما ترى أن اندحار قوات الاحتلال الصهيوني عن أي جزء من أرض فلسطين، بفعل المقاومة، ودون قيد أو شرط، هو إنجاز وطني، وخطوة على طريق التحرير الكامل". تهدف المقاومة الى "إجباره على الرحيل عن أرضنا، وصولاً إلى التحرير الكامل لفلسطين، الذي هو مهمة تاريخية وإنسانية كبرى"، لأن"السلام الحقيقي الذي ينشده الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة، هو السلام الذي يقوم على إحقاق الحق، وإنهاء الظلم والعدوان والاحتلال، وإعادة فلسطين المحتلة، من نهرها إلى بحرها، إلى أهلها وأصحابها الأصليين، وعودتهم إلي أرضهم وديارهم التي هجروا منها."

لا تعتبر الحركة أن الغزاة اليهود يشكلون "قومية": "اليهودية ليست قومية، واليهود ليسوا شعباً متجانساً من أصل واحد يجمعهم تاريخ واحد ولغة واحدة، وإنما هم نحلة دينية، جمعتهم الحركة الصهيونية من مختلف الجنسيات والألسن والأعراق في الكيان الإسرائيلي..."

لهذه الأسباب، تعتبر حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين أن مسألة "إزالة الابارتهايد" الصهيوني واعتبار الفلسطينيين مواطنين متساوين مع الغزاة على أرض فلسطين لا ينهي الصراع، بل قد يكرّس حالة التبعية للغرب وتجزئة الأمة، ولا يحلّ القضايا الأساسية داخل الدولة الواحدة المنشودة، بل يزيد أزماتها.

------------------------------------------------------

[i] د. أنور أبو طه، مقابلة 9/2020

[ii] هاني رمضان طالب، دراسة "مفهمة الحالة الاستعمارية في فلسطين" مركز الزيتونة، 2023

[iii]“Ils étaient l’Amérique” Serge bouchard … ed. Lux

[iv]هاني رمضان طالب

[v]نديم روحانا في كتاب "الصهيونية والاستعمار الاستيطاني"مركز مدار 2023

[vi] Mahmood Mamdani, Neither settler nor native, 2020.

[vii]Lana Tatour, The culturalisation of indigeneity: the Palestinian-Bedouinof the Naqab and indigenous rights, 2019.