بقلم: شحادة موسى
عندما أُعلن اتفاق أوسلو (1993) شعر كثير من الفلسطينيين وخصوصًا اللاجئين منهم بخيبة الأمل لأن قضيتهم قد أُهمِلت وربما ضاعت مع أنها جوهر القضية الفلسطينية. وبمرور الوقت واتضاح نتائج أوسلو الكارثية على القضية الفلسطينية في مُجمَلها، عمَّ الشعور بالإحباط، وتبعثرت المواقف والرؤى.
غير أنَّ ارتفاع صوت المقاومة وظهور السلاح بأيدي فصائلها أحيا الأمل لدى جماهير شعبنا واجتذبها. وأصبح أوسلو نقطة فصل بين المقاومة ومشروع التحرير مقابل المفاوضات ومشروع التسوية.
ولم تخطئ عين المراقب ليلاحظ ما تتميز به حركة الجهاد الإسلامي من صدق والتزام بهذا المعيار قولاً وعملًا؛ فهي لم تلجأ الى المراوغة اللغوية والتلاعب بالألفاظ وتأويلها التي يجيدها المتمسِّكون بأوسلو مع إقرارهم بفشله، ولم تمارس المراوغة السلوكيَّة التي يتَّبِعها الذين يُظهرون رفض أوسلو وينخرطون عمليًّا في سلطته وتحت قيادة رئيسها.
ولذلك فإنَّ مشاركة الحركة في اجتماع الأمناء العامِّين للفصائل الفلسطينية (رام الله – بيروت، 3 أيلول/ سبتمبر 2020) أحدثت خضَّةً لدى كثيرين من محبِّي الحركة وأنصار المقاومة. فالاجتماع عُقد بالتزامن في بيروت ورام الله (عاصمة أوسلو) وبدعوة من رئيس سلطة أوسلو، محمود عباس، الذي يوصف بعرَّاب أوسلو. وكانت المشاركة تعني في حدِّها الأدنى رفع المقاطعة عن أوسلو، وفي الحدِّ الأقصى الدخول في نفق أوسلو الذي لا مخرج منه. وفي الحالتين كانت المشاركة مبعثَ إرباك وقلق، بل إنها أثارت في النفوس تخوُّفات من أنْ يكون للأمر صلةٌ بمحور المقاومة وتغيُّر في موقفه من تحرير فلسطين.
ولم يكن ذلك التخوُّف من غير أساس؛ فقد تصادف اجتماع الأمناء العامِّين مع إشارات صدرت من سورية ولبنان تبعث على الحيرة. من سورية صدر ما يشبه التبشير بقرب خروجها من محور المقاومة، والصلح مع "إسرائيل"، وفي لبنان لوحظ أنَّ فضائية "الميادين" التي توصف بفضائية المقاومة، وعلى غير العادة، تزيد من استضافة شخصيات فلسطينية من "عرب 48" المعروفين بتوجهاتهم "الاندماجية" في الدولة/ الكيان، وتُكثر من نقل الأخبار المحليَّة في "إسرائيل" وتستخدم هذا الاسم وليس الكيان الصهيوني أو فلسطين المحتلة الذي درجت عليه. هكذا، وفجأةً بدا وكأن التضحيات الهائلة التي قدَّمها محور المقاومة تنتهي عند أُطروحات أوسلو وحلِّ الدولتين.
غير أنَّ هذه الحالة لم تدم طويلًا؛ ومن محاسن الصُدف أنَّ الذكرى (33) لانطلاقة حركة الجهاد الإسلامي حلَّت بعد شهر واحد على اجتماع الأمناء العامِّين. وفي هذه المناسبة تحدَّث الأمين العام للحركة، زياد النخالة، وفي حديثه جاءَ ما يهدِّئ من القلق، وإن لم يبدِّدْه. ومن أجل هذا وجب توجيه التحية للحركة في ذكرى انطلاقتها، ولأمينها العام لما أكده من التزام بالمبادئ والثوابت الوطنية. فقد أكد النخالة القطيعة الكاملة مع أوسلو، والالتزام الثابت بالمقاومة خيارًا نهائيًا لتحرير فلسطين كل فلسطين. ومما قاله عن أوسلو قال: نحن شاركنا في اجتماع الأمناء العامِّين إيمانًا بضرورة وحدة شعبنا وبشرط سحب الاعتراف بالكيان الصهيوني وإعادة بناء منظمة التحرير لتصبح الإطار الوطني لقوى الشعب كافة. نحن مستعدون للمشاركة في انتخابات المجلس الوطني وبشرط أن تكون منفصلة عن انتخابات المجلس التشريعي لأننا لن نكون جزءًا من مجلس تشريعي يعترف بالعدو وفقًا لاتفاقيات أوسلو. ونعلن أمامكم لا لاتفاقيات أوسلو.
وعن المقاومة قال: "هي طريقنا وخيارنا لانتزاع حقنا في فلسطين كل فلسطين. ونحن نضع في حواراتنا أولويَّةَ صياغة برنامج وطني مقاوم وواضح، ولا أولويَّة غيره. نحن مع الذين يقفون معنا في جبهة واحدة ضد المشروع الصهيوني، وضد كل الذين يقفون مع المشروع الصهيوني ضدنا".
إنَّ هذه العبارات على قِصَرها تختزن جوهرَ القضية وهوية المقاومة؛ فالعدوُّ هو المشروع الصهيوني، والمقاومة مقاومةُ لهذا المشروع. وهذه إصبعٌ في عين كل الذين لا تتعدّى أُطروحاتهم مقاومة "الاحتلال" أي احتلال "إسرائيل" للضفة الغربية، وتُعيد البوصلة الى اتجاهها الصحيح وهو المشروع الصهيوني المتجسِّد في الكيان الذي يسمونه "إسرائيل". وفي العبارات رسالة تستنهضُ إرادةَ شعبنا ووعيَه بأنَّ قدَرَه أنْ يكون عجينةَ المقاومة وخبزَها، فإذا ما اكفهرَّ الجوُّ من حولنا لا ننكفئُ عن المقاومة ولو بقينا وحدنا.
وعن الوحدة الوطنية قال: شاركنا في اجتماع الأمناء العامِّين إيمانًا بضرورة وحدة شعبنا، ومن أسوأ ما نواجهه اليوم قناعة البعض بأننا يمكن أن نصنع سلامًا مع العدوّ ولا يمكن أن نصنع السلام بيننا.
وبالنظر لأهمية هذه المسألة وحساسيتها، سنتناول التعليق عليها في موضع لاحق.
وعن التسوية أشار النخالة الى مسألة مهمة إلَّا أنها لم تحظَ بالاهتمام اللازم في التعليقات التي سُجِّلت على الكلمة. فقد قال "إنَّ الوقائع كافة تشير الى استحالة التسوية مع الكيان الصهيوني، وإنَّ أحدًا لم يعرض على الشعب الفلسطيني أي مشاريع تسوية، والمشروع الوحيد الذي عُرِض هو صفقة القرن التي تهدف الى تصفية القضية الفلسطينية". وحقيقة الأمر أنَّ ما سُمِّيَ مشاريع أو مبادرات سلام كانت عروضًا فلسطينية أو عربية للتنازلات التي يمكن تقديمها في حال التسوية مع "إسرائيل". ومنذ أن تسلَّمت حركة فتح قيادة منظمة التحرير (1969) ومسلسل التنازلات يتوالى الى أن انتهى بالاعتراف بإسرائيل(1988)، ثم باتفاق أوسلو. (راجع على سبيل المثال: محاضرة هاني الحسن، لندن،1989؛ ومذكرات أريك رولو (.
وحكاية الاعتراف بإسرائيل جديرة بأن تُروى لما انطوت عليه من "تراجيديا كوميديَّة". تبدأ الحكاية بما يرويه محمد حسنين هيكل عن زيارة سرية قام بها الى تونس في شهر أيلول/ سبتمبر 1988 بدعوة من حركة فتح. وفي الاجتماع مع قادة الحركة طُلب رأيه فيه الاعتراف بالقرار (242)، ورأى هيكل أنَّ من الأجدى الاعتراف بقرار التقسيم (1947) الذي هو قرار دولي خاص بفلسطين، ولكن القرار كان قد اتُخِذ. وطُلب إليه المساعدة على تليين موقف جورج حبش من القرار قبل الاجتماع العام الذي سيعقد لقادة منظمة التحرير(هيكل، المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل، ج 3(. أمّا حكاية إعلان الاعتراف (تشرين الثاني/ نوفمبر 1988) فيكمِّلها محمود عباس في كتابه "طريق أوسلو" ويقول: كان المطلوب من المجلس الوطني الاعتراف بالقرار (242) وهذا لا يمكن أن يمرَّ بدون تطعيم وطني فقلنا ليكن قرار الاستقلال؛ وهكذا صفق أعضاءُ المجلس الوطني للاعتراف وهم يظنون أنهم يصفقون للاستقلال.
تلك روايةٌ تجسِّد فعلاً تراجيديا كوميديَّة، انطوى إخراجها على مسرحيتين: السُخرية من المجلس الوطني ممثلِّ الشعب الفلسطيني، وتعمُّد القيادة خداع الشعب لتمرير قرار لا يوافق عليه.
ولقد أصبحت التسوية بدورها مأساة كوميدية؛ فمع التهليل بالسلام تنزل المصائب وخصوصًا بأهلنا في الضفة الغربية وقطاع غزة وما يتعرضون له من معاناة بسبب الحصار، والاستيطان والتهويد، وانتهاكات القوات الصهيونية، وتعديات المستوطنين. ومع ذلك سوف يستمر أصحاب التسوية في أوهامهم وخطاياهم لأنهم لا يملكون عنها بديلاً. وبالأمس خرجت حركة فتح بدون مقدمات أو اعتبار للفصائل التي كانت تتحاور معها على الوحدة ومقاومة الاحتلال، لتعلن عودة العلاقات كاملة مع إسرائيل، وضمنًا العودة الى خيار المفاوضات.
ولذلك كانت إشارة النخالة الى استحالة التسوية مع الكيان الصهيوني في محلِّها وأوانها؛ فلا خيار غير المقاومة ولا حليف غير المقاومين. وهذا التصميم يؤكد لجماهير شعبنا أنَّ باب الأمل لا يُغلق ما دام فينا رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه. غير أن ذلك لا يعفي من الحذر، لأنَّ التجربة مع المراوغة والتلاعب بالألفاظ تؤكد ضرورة إحكام اللفظ والمعنى في المبادئ والقضايا الأساسية، ومنها:
أوسلو : لقد أصبح الموقف من الاتفاق معيارًا حاكمًا للوطنية الفلسطينية؛ فهو ليس اتفاقًا دوليًا ولا تسوية تاريخية ولا قرارًا شعبيًا؛ وهو بالنص مطابق للملحق في اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل الذي وصفه السادات بافتخار بأنه حكم ذاتي كامل للفلسطينيين. هو إذن صفقة أقرَّ فيها الطرف الفلسطيني بيهودية فلسطين في مقابل سلطة له على الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وقد تأكدت حقيقة أوسلو بالتجربة على مدى أكثر من ربع قرن حتى إنَّ أصحابه أصبحوا يتحاشون الدفاع عنه، ويلجأون الى لغةٍ مراوغة لإخفاء تمسُّكِهم به، مثل قولهم إن أوسلو قد مات أو انتهى أو إن "إسرائيل" لا تلتزم به، الخ. وتأكد في الوقت نفسه نقيض أوسلو الذي يتجسد بإدانة الاتفاق رسميًا، وإعلان بطلان أحكامه والالتزامات التي ترتَّبتْ عليه بما في ذلك الاعتراف بإسرائيل، وبالسلطة التي تشكلت بموجبه.
الوحدة الوطنية: لا شك في أنَّ الوحدة ضرورة وطنية ونضالية، وقد أصبحت مطلبًا عامًّا درج على ألسنة الأفراد والجماعات والمسؤولين، فلسطينيين وعربًأ، أنصار المقاومة ودعاة التسوية، ممّا جعل المفهوم ملتبسًا والغاية غامضة؛ فهناك من يرى في الوحدة وسيلة لتقوية عملية التفاوض، وهناك من يراها سبيلًا لتعزيز جبهة المقاومة. وللخروج من هذه الضبابية لا بدَّ من تحديد المقصود بالوحدة وبأطرافها الحقيقيين، وذلك بتحديد ركائزها الثلاث، وهي: الوحدة على ماذا، والوحدة من أجل ماذا، والوحدة مع من. وبدون ذلك تكون وحدة عشوائية حمَّالة أوجه ومعرَّضَة للانفراط، كالجرح الذي "يلتحم على غش"، أي يلتحم قبل أن يبرأ ويعرَّض الجسم للخطر. ومن الضروري، على أي حال، أن لا يظلَّ طريق الوحدة في اتجاه واحد نحو أوسلو وأصحابه الذين لا يخفون غرضهم من الوحدة وهو تعزيز سلطتهم وتقوية موقفهم في التفاوض مع "إسرائيل".
الانتخابات: ميَّز النخالة في الانتخابات بين المجلس التشريعي والمجلس الوطني، وأكد استعداد الحركة للمشاركة في انتخابات المجلس الوطني وعدم مشاركتها في انتخابات المجلس التشريعي لكونه من منتجات أوسلو ويعترف بإسرائيل. ويشارك في هذا الرأي فصائل وشخصيات عدة تركِّز الدعوة الى انتخابات المجلس الوطني طريقًا للخروج من الوضع الفلسطيني الحالي.
وما ينبغي ملاحظته هنا أن المجلس الوطني لا يختلف عن المجلس التشريعي بمعيار أوسلو. فالمجلس الوطني هو الذي اعترف "بإسرائيل" (1988)، وهو الذي غيَّر الميثاق القومي لمنظمة التحرير (1996) كي يتمشَّى مع اتفاق أوسلو، وهو الميثاق المعمول به حاليًا. ولذا، فالصواب برأينا يذهب الى عقد مؤتمر تأسيسي يعيد تأسيس المنظمة بميثاقها الأصلي، وينبثق عنه مجلس وطني يجسِّد الوحدة الشعبية، وهي أقوى وأبقى من وحدة الفصائل، ويلتزم بالميثاق المحَصَّن بأحكام اقتضتها التجربة. وبعد، فإنَّ موقف حركة فتح الأخير بإعادة العلاقات مع "إسرائيل"، والعودة عمَّا بدا توجُّهًا للانفكاك من أوسلو، قد جاء ليقطع بأنَّ أوسلو هو خيارهم النهائي، وأنَّ التعويل على أميركا والغرب هو السبيل للحصول على ما يسمُّونه دولة.
وعسى أن تكون هذه الملاحظات مساهمة في تجذير الحسم بين أوسلو ونقيضه، وتعزيز الخيار الذي عبَّرت عنه حركة الجهاد في ذكرى انطلاقتها.