بقلم/ احمد عبد الرحمن:
في أواسط سبعينيات القرن الماضي، بدأت فكرة تشكيل تنظيم فلسطيني مسلّح ذي خلفية إسلامية ينتهج مبدأ الكفاح والقتال في مواجهة الكيان الصهيوني تراود عقول بعض الشباب الفلسطينيين الدارسين في جمهورية مصر العربية.
كان على رأس تلك المجموعة من الطلبة شاب في مقتبل العمر لم يتجاوز العقد الثالث من عمره بعد، يُدعى فتحي إبراهيم الشقاقي، من مدينة رفح جنوب قطاع غزة، وكان يدرس في كلية الطب في جامعة الزقازيق.
بدا هذا الشاب في ذلك الوقت متقدّماً على الكثير من أقرانه على صعيد الفكر والنظرة إلى المستقبل، وبدا كذلك أنه يحمل رؤية إسلامية مختلفة عن تلك التي كانت سائدة في أوساط الإسلاميين حينذاك، ولا سيما في أوساط جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين التي كان ينتمي إليها.
بدأت الفكرة لدى الشقاقي تكبر يوماً بعد يوم، وأخذت تتحوّل بشكل تدريجي إلى نشاطات محدودة، من خلال نشرات صغيرة وجلسات قليلة العدد رافقها طرح لبعض الأفكار التي بدت في ذلك الوقت غريبة وغير منطقية، إلا أن سلاسة طرحها من قبل ذلك الشاب الذي كان أصدقاؤه يصفونه بأنه متّقد الذهن وشديد الذكاء ويملك قدرة كبيرة على الإقناع، جعلها تجد طريقها نحو قلوب وعقول مجموعة من رفاق الدراسة الذين كان بعضهم يأتي من أماكن بعيدة، حيث يدرسون في جامعات الصعيد والإسكندرية، إلى جامعة الزقازيق للاستماع إليه وهو يُبحر في عالم الفكر، ويُبدع في عالم السياسة، وينظر إلى القضية الفلسطينية من خلال منظور جديد، ويقدّم قراءة هادئة ومرنة للإسلام بمفهومه الواسع الذي يقبل الاختلاف ويستوعب الجميع، ويفنّد الكثير من الأكاذيب، ويوضح الكثير من الحقائق، ويضع الأمور التي تهم الأمة في نصابها، بعيداً من الأجندات الحزبية والسياسية والمذهبية.
في تلك الفترة من عمر الأمة، حدث تطور مهم ودراماتيكي قلب الأمور رأساً على عقب، وشكّل رافعة لكل قضايا المستضعفين في المنطقة والعالم، وتحوّل إلى أنموذج فريد من نوعه لكل من أراد مقارعة الظلم ومجابهة قوى الاحتلال.
هذا الحدث كان انتصار الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني على نظام الشاه المجرم في شباط/فبراير من العام 1979، وما رافق ذلك من تطوّرات وتحوّلات صبّت جميعها في مصلحة قضايا الأمة العادلة، وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية.
فجّرت تلك الثورة شعوراً طاغياً بالأمل والتفاؤل عند الشاب فتحي الشقاقي ورفاقه، إذ رأوا فيها ما يخفف عنهم وحدتهم وقلّة عددهم وغربة أفكارهم وأطروحاتهم، ونظروا إليها بأنها يمكن أن تشكّل بديلاً حقيقياً لكثير من المبادئ البالية والأطروحات الهزيلة والأنظمة الفاسدة، وهو ما عبّر عنه الشقاقي من خلال كتابه الذي بدا غريباً وجريئاً آنذاك "الخميني.. الحل الإسلامي والبديل"، الذي اعتقل في إثره عدة أيام في السجون المصرية.
بعد عامين ونصف عام تقريباً من انتصار الثورة الإيرانية، وقع حدث مفصلي آخر، إذ تم اغتيال الرئيس المصري محمد أنور السادات في 6 تشرين أول/أكتوبر 1981، بعيد فترة وجيزة من عودة الشقاقي إلى قطاع غزة، بعدما أنهى دراسته الجامعية.
بعد عملية الاغتيال، تم اعتقال جزء كبير من أصدقاء الشقاقي ورفاقه الذين لم يُنهوا دراستهم بعد، رغم عدم تورطهم من قريب أو بعيد بتلك العملية، إذ تم ترحيلهم لاحقاً إلى قطاع غزة. حينها، التمّ شمل الأصدقاء من جديد، وعادت الفكرة إلى وهجها مرة أخرى.
وبعد مداولات ونقاشات مستفيضة، تم الاستقرار على تحويل الحلم إلى حقيقة، والفكرة إلى واقع، والمأمول إلى ملموس، إذ وُضعت في أواخر العام 1981 اللبنة الأولى لتأسيس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، التي تمر علينا في هذه الأيام الذكرى الثانية والأربعون لتأسيسها على أيدي الشقاقي وإخوانه، والذكرى السادسة والثلاثون لانطلاقتها الجهادية التي تم التأريخ لها في ذكرى عملية الشجاعية البطولية في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1987، التي كانت أحد الأسباب المباشرة لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى بعد ذلك بشهرين تقريباً.
إطلالة على التاريخ
منذ ذلك التاريخ الذي أُسّست فيه حركة الجهاد، وخلال سنوات طويلة، عاشت الحركة بثبات وصمود ورباطة جأش، رغم ما تعرّضت له من استفزازات واتهامات ومضايقات، ورغم ما تلقّته من ضربات من رأس الشر والإفساد في المنطقة "إسرائيل"، ورغم وحشة الطريق الذي سارته في كثير من الأحيان وحيدة، تلملم أشلاء قادتها ومجاهديها، وتعضّ على ألم الخذلان وقلّة النصير، ورغم فقرها وقلّة زادها وحصارها ومحاولة خنقها.
رغم كل ذلك وغيره الكثير مما لا يسمح الوقت بالتذكير به، استمرت الحركة في طريقها من دون أي تراجع أو انكفاء، تواجه الريح، وتتصدّى للتشويه، ولا ترقب من فوهات بندقيات رجالها الأشدّاء إلا مآذن القدس العتيقة، ولا ترنو ببصرها رغم محاولات التعتيم وظلمة الطريق إلا إلى فجر الحرية والتحرير، غير آبهة بتضحيات هائلة وطعنات غادرة، مرددة قول أمينها العام الأول ومؤسسها الشهيد فتحي الشقاقي: "حارس العمر الأجل"، ومستلهمة الشعار الخالد لأمينها العام الثاني الدكتور رمضان شلح رحمه الله: "والله لو وضعوا كل شموس الأرض في يميننا، وكل أقمارها في يسارنا، على أن نتنازل عن شبر واحد من فلسطين أو ذرة تراب من القدس فلن نقبل".
في ثنايا هذا التاريخ المجيد لحركة الجهاد الإسلامي، يمكن لنا أن نرى حجم الجهد والتعب الذي قدّمته الحركة وما زالت، إذ كان لها شرف تفجير انتفاضة الحجارة، وإن كان البعض ما زال يحاجج في ذلك، وكان لها شرف تفجير ثورة السكاكين، وإن كان البعض ما زال يُنكر ذلك، وكان لها شرف تنفيذ أول عملية استشهادية في فلسطين، وإن كان البعض يحاول أن يتجاوز عن ذلك.
وكان لها شرف رفع شعار الواجب رغم الإمكان وتحقيقه فعلاً مقاوماً على الأرض، على الرغم من تشكيك البعض في ذلك، وكان لها شرف إعادة الروح إلى العمل المقاوم في الضفة المحتلة بعد سبات طويل استمر أكثر من 15 عاماً، رغم إنكار البعض ذلك، وكان لها الكثير والكثير من البطولات والإنجازات التي لا يتسع المجال لذكرها، والتي وضعتها منذ النشأة وحتى الآن على رأس قائمة المستهدفين بالقتل والاغتيال والحصار والتشويه.
أجندة الجهاد الإسلامي
خلال هذه المسيرة الطويلة من البذل والعطاء، كانت أجندة الجهاد واضحة كالشمس، سواء على المستوى الداخلي أو على صعيد علاقاتها في المنطقة والإقليم، فهي لم تتلوّن كما يفعل البعض، ولم تقفز من قارب باتجاه آخر عند شعورها بالمخاطر والأزمات، ولم تُسقط شعارات وترفع أخرى بحسب ما تقتضيه مصلحة الحركة، بل ظلّت ثابتة متمسكة بمبادئها من دون خوف أو وجل، رغم ما دفعته من أثمان، وما زالت أمينة على مصالح شعبها وأمتها، وحريصة على أن تبقى يدها نظيفة من المال الحرام، ومن دم إخوة الدين والوطن. عدوّها واحد، وقتاله مقدّم على كل ما سواه. لا تلتفت إلى الصغائر، ولا تنتظر من أحد صدقة أو إحساناً.
منذ نشأة حركة الجهاد الإسلامي قبل 42 عاماً وأجندتها مُعلنة على رؤوس الأشهاد، وهي تدعو بكل وضوح إلى التحالف مع كل قوى الأمة الحيّة التي تعارض وجود رأس حربة المشروع الاستعماري في المنطقة المسماة "إسرائيل". لذلك، رفعت شعار مركزية القضية الفلسطينية، وهي تدعو كذلك إلى وحدة الأمة على قاعدة جمع مفردات القوة في الأمة، حتى تستطيع مواجهة تكتل قوى الشر والعدوان الذي يقف على رأسه "الشيطان الأكبر" أميركا.
أجندة الجهاد كانت وما زالت ترتكز على الدعوة لمواجهة العدو في كل أماكن وجوده، وبكل الوسائل الممكنة، والتواصل مع كل المكوّنات التي يمكن أن تساعد في الوصول إلى هذا الهدف، بصرف النظر عن اللغة والطائفة والعِرق واللون.
وقد حرصت حركة الجهاد على مدار تاريخها الطويل وقيادتها المتعاقبة على بناء علاقات داخلية وخارجية واضحة وشفّافة، إذ لم يحدث أنها سمحت لأي حليف أو شريك، إقليمياً كان أو محلّياً، ومهما كانت قوة العلاقة معه بالتدخّل في قرارها أو فرض أجنداته عليها أو التأثير في توجهاتها وعلاقاتها.
ورغم أن البعض اعتقد في لحظة ما، سواء بحسن نيّة أو بغير ذلك، أن تحالف الحركة مع قوى إقليمية معينة وتلقّي الدعم منها بعدما تخلّى عنها معظم العرب والمسلمين هو انصياع لأجندة خارجية واستسلام لمشيئة إقليمية، فقد أظهرت السنوات الأخيرة أن موقف الجهاد كان صائباً، وأن الحركة كانت تنظر إلى المستقبل بعيون مفتوحة وبقلب طاهر ونظيف.