بقلم: سامر العريفه
لم تكن الثورة في يوم من الأيام "خيار اليائسين"، رغم أن كلفتها وبطبيعة الحال عالية، ولم يكن من أهدافها "تحقيق الرفاهية" أو الانغماس في أوحال التسويات السياسية وبهدف أو بدون هدف، برؤية أو بدونها، وتحت حراب الاحتلال الذي يصادر حقوق شعب بأكمله، بل وحتى ينكر وجوده بالأصل، مدعوماً من قوى الاستعمار الغربي الذي يسعى جاهداً وبكل الإمكانات الهائلة إلى "تأصيل الغريب، وتغريب الأصيل"، ذلك النظام الغربي الكولونيالي المتآمر منذ فجر التاريخ على قضية فلسطين أرضاً وشعباً، ومعهم بعض النظام العربي الرسمي الذي يطبّع اليوم مع "إسرائيل" ذلك الكيان الغاصب والهجين على الأمة العربية والإسلامية.. تلك المنظومة ومن معها ارتضت أن تكون وقوداً يدفع باتجاه استمرار الاحتلال وتغوّله أكثر فأكثر على شعب تم اقتلاعه من أرضه وبدون أي دعم أو نصير، تحت وقع الحروب والمجازر المتواصلة حتى يومنا هذا.
منذ نشأة حركة الجهاد الإسلامي وجناحها العسكري "قسم" والذي استنار اسماً جديداً له "سرايا القدس"، في سياق المسيرة الجهادية المتواصلة، لم تحد عن ثوابتها وخطوطها العريضة والتي هي بالأصل تنبع أولاً وأخيراً من الحفاظ على حق الشعب الفلسطيني في أرضه ووطنه، وذلك عبر التأكيد على التمسك بفلسطين كل فلسطين دون انتقاص أو اختزال، تحت أي عناوين أو مبررات قد يسوقها البعض.
من الأمين العام والمؤسس د.فتحي الشقاقي إلى د.رمضان شلّح ـ رحمهما الله ـ ووصولاً إلى القائد الوطني الذي تسلّم بكل مسؤولية وثبات قيادة الجهاد الإسلامي في مرحلة صعبة ودقيقة وحساسة، المناضل الكبير زياد النخالة وحافظ على الإرث النضالي والثوري لحركة الجهاد بل وجعل الحركة أكثر حضوراً على الساحة الفلسطينية، كما باتت قضية فلسطين أكثر حضوراً وثبات واتزاناً وقوة، وبسواعد كل قوى المقاومة الثابتة على نهج تحرير فلسطين.
لم تكن الجهاد الإسلامي لتخدع يوماً وتحت العناوين البراقة والملونة بالمناورات والمداورات وضرورة الاتسام بـ"المرونة" و"الواقعية السياسية"، بل وحتى القبول بما يسمى "حلول وسطى قابلة للتطبيق"! على أرض فلسطين، وأكدت مراراً وتكراراً منذ تأسيسها أن لا حل في فلسطين وللقضية الفلسطينية إلا بزوال الاحتلال، انطلاقاً من الحق المشروع لشعب اقتلع من أرضه بقوة الترهيب، ووصولاً إلى لعبة الترغيب التي انخرط فيها أصحاب الرعيل الأول في الثورة الفلسطينية، والتحق بهم من التحق، منذ الإعلان عن "اتفاق أوسلو" في العام 1993 مروراً بكل الاتفاقيات والتفاهمات المتفرعة عنه أو اللاحقة له، وذروة ذلك "التفاهمات الأمنية" أي التنسيق الأمني الكامل مع المحتل المغتصب لأرض فلسطين! تحت وهم ما يدعونه بـ"الدولة الفلسطينية"، التي لا وجود لها أصلاً في أساس اتفاق الوهم والتنسيق الأمني، والتي لا تملك كذلك من مقومات الدولة أي شيء، وبالأساس يمكن القول: أي دولة يمكن أن تنشأ ويكونة لها كيان تحت حراب الاحتلال!
لقد كان القائد النخالة ولايزال في قراءته للصراع العربي ـ الإسرائيلي، والذي تم تقزيمه عبر مرور السنوات إلى الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بل وحتى وصل إلى صراع البعض الفلسطيني المحافظ على نهجه وثوابته بوجه الاحتلال، كان ولايزال متمسكاً برؤية الجهاد الإسلامي، وأميناً على الحفاظ على ثوابتها، وعلى حقوق الشعب الفلسطيني، ولم يكن يوماً ليسوق المجاملات أو محاولة استمالة هذا الطرف بوجه ذاك، أو هذه الدولة بوجه تلك، بغرض مكاسب شخصية أو حركية، كان ولايزال يعبّر وبكل وضوح عن أصالة النهج الثوري النضالي في وجه أصحاب "الواقعية السياسية" وضرورة تبني "الخطاب المرن" حتى يرضى عنهم المحتل وكل الغرب معه، فيعطوا الفلسطيني من الفتات قدر ما يشاؤون ومتى يشاؤون ذلك.. وهذا النهج الثوري بلا شك له أعداء تتسع دائرتهم بقدر ما يجنحون باتجاه مكاسب مادية وأهداف شخصية وبعض امتيازات أو تسهيلات ووعود زائفة من هنا أو هناك، وينطلقون من حجج ومبررات "اتساع الهوة في القدرات والإمكانات" بمواجهة العدو.
لم تنزلق الجهاد الإسلامي كما فعل البعض نحو ترسيم المناورات السياسية، والعمل على تعديل ميثاقها أو رؤيتها ونهجها الثوري لتكون أكثر واقعية وقبولاً من المحتل والغرب الداعم له، لم تكن الجهاد الإسلامي لتفعل ذلك، وهي التي نأت بنفسها أصلاً عن المحاصصة أو الدخول في بازار تحقيق مكاسب سلطوية مادية، أو أن تكون جزءًا من منظومة سياسية أمنية بمباركة الاحتلال وتحت رعايته.
وبالمستوى نفسه وبالقدر الذي أكدت فيه الجهاد الإسلامي الحفاظ على نهجها وثوابتها ورؤيتها، حافظت على وحدة الصف الفلسطيني، وكانت السباقة وعلى مدار السنوات الماضية لجمع "المتخاصمين" على قاعدة برنامج المقاومة وإدامة الصراع مع المحتل، والوصول ولو بالحد الأدنى إلى قواسم مشتركة تجمع الكل الفلسطيني وتنبذ حالة الانقسام القائمة والتي أضرت كثيراً ولازالت بالحالة الفلسطينية، ولم تكن الجهاد الإسلامي يوماً من الأيام سبباً للفرقة أو السعي باتجاه شرذمة وضرب الوحدة الفلسطينية، مع تمايز الحركة عن بقية الحركات والفصائل والأحزاب ـ حالها كغيرها ـ في طريق إدارة هذا الصراع وأنه لا يوجد "نصف ثورة" ولا قيمة ولا معنى في قاموس الجهاد الإسلامي لـ"أنصاف الحلول"، لأن النصف ثورة هو بمثابة انتحار بل وخطيئة استراتيجية وتاريخية وبكل المقاييس، وأن ذلك لا يمكن أن يستقيم أو يكون له مكان إلا في بازار التنازلات والتخلي عن الواجب والمسؤولية الشرعية والأخلاقية والوطنية.
أدركت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، ومبكراً بأن هذا الخيار الصعب وبكل تعقيداته، ومع قلة الزاد والإمكانات والسند، هو الخيار الصحيح، وأن "الواجب فوق الإمكان"، وأن فلسطين لا يمكن أن تقبل القسمة على اثنين، فـ"إما نحن وإما نحن"، كشعب فلسطيني لا يمكن أن يحيد عن المسلّمات، وعن حقه في كل شبر من تراب فلسطين، مهما تآمر الأعداء وتغوّل المحتل في الدم الفلسطيني، بدعم ورعاية المنظومة الغربية، وإن خذلنا البعض أو الكل سواء على المستوى المحلي أو العربي أو الإقليمي، والدولي الاستعماري الذي جعل من كيان الاحتلال رأس حربة للمشروع الغربي في فلسطين وفي قلب الوطن العربي والإسلامي.
وكانت حركة الجهاد الإسلامي رائدة منذ انطلاقتها وصاحبة فكر نير وبصيرة ثاقبة، وأدركت أن الحالة الفلسطينية لا يمكن أن تستقيم إلا باستنهاض ثوري شامل وحتى على مستوى الأمة ككل، فأكدت على مركزية قضية فلسطين، وأنهت ذلك الجدل القائم بين الإسلامي والقومي والعلماني والليبرالي واليساري وغيرها من العناوين، فجمعت بين الإسلام والجهاد وفلسطين، وأن كل من يحمل السلاح في وجه المحتل أو يشكل الحاضنة أو الجهة الداعمة لنضال الشعب الفلسطيني فهو في محور المقاومة ونصرة قضية فلسطين وشعبها.
القائد زياد النخالة لم يكن يوماً ليتحدث إلا بلغة الوحدة والكل الفلسطيني، لاسيما بما يتعلق بالمتمسكين بنهج وبرنامج المقاومة، وهو بعيد كل البعد عن "لغة الأنا" ومحاولة التفرد بالقرار الفلسطيني، في الوقت الذي تواصل فيه الجهاد الإسلامي وسرايا القدس تقديم المزيد من الشهداء والتضحيات، وتحمّل الضغوط الداخلية والخارجية، دفاعاً عن الشعب الفلسطيني، وفي سياق التصدي للعدوان المتواصل، والتأكيد على المشاغلة ومراكمة القوة وإدامة الصراع مع المحتل، حافظت الجهاد الإسلامي على تواضعها. ولقد ذهبت الجهاد الإسلامي بعيداً في سياق تحقيق التقارب ولم الشمل الفلسطيني، حتى فيما يتعلق بمنظمة التحرير والمجلس الوطني واللجنة المركزية، ولكن على قاعدة العودة بالمنظمة إلى كونها يمكن أن تشكل مظلة تجمع الكل الفلسطيني انطلاقاً من ميثاقها الثوري الأصيل، وكان واضحاً من يمارس سياسة المراوغة وشراء الوقت لتحقيق مكاسب آنية ومادية، فيما البعض الآخر ذهب باتجاه تقديم التنازلات لتسويق نفسه ضمن منظومة السلطة كأمر واقع يجب التعامل معه!
ومن هنا كان حديث القائد النخالة عن وجود ثلاث تيارات في الساحة الفلسطينية:
- تيار السلطة الذي يؤمن بالمفاوضات.
ـ تيار ضد اتفاق "أوسلو" بالمطلق، والذي يتمسك بالمقاومة ويؤمن بأن لا حل مع العدو.
ـ تيار "براغماتي" يكون مفهوماً، وغير مفهوم أحيانًا!
وأن الخيارات الثلاثة في صراعنا كشعب فلسطيني مع الاحتلال: إما التعايش، أو الرحيل، أو القتل، فهم يحاولون عبثاً فرض سياسة ومعادلة التيئيس.
لقد قدمت الجهاد الإسلامي منذ الشهيد المؤسس الدكتور الشقاقي ومروراً بفقيد الأمة الدكتور رمضان شلح، وصولاً إلى القائد النخالة، أكثر من رؤية أو برنامج لإدارة الصراع مع المحتل، وكل ذلك في محاولة تحقيق وحدة الصف الفلسطيني، وعلى قاعدة تحرير فلسطين وكنس الاحتلال، وقد لاقت كل تلك الرؤى والبرامج ترحيباً فلسطينياً وشعبياً واسعاً، ولكن خلا من أي تجاوب فعلي وعملي وحقيقي من الأقطاب الرئيسة في الساحة الفلسطينية في حينه، والتي لم ولن تغير من نهجها الانهزامي في سبيل الحفاظ على مكاسب مادية سلطوية لا أكثر، ورغم ثلاثة عقود من الفشل لا تريد أن تقر بعجزها وعقم خياراتها.
لقد تواصلت محاولات التصويب على الجهاد الإسلامي ونهجها وأمينها العام بشكل متصاعد، في ظل ما حققته المقاومة وعلى رأسها حركة الجهاد من إنجازات وانتصارات ـ رغم حجم التضحيات ـ ولاسيما خلال معركة "ثأئر الأحرار" وقبلها معركة "سيف القدس" في غزة، وما بينهما، وصولاً إلى معركة "بأس جنين" في الضفة، حاضنة الجهاد الإسلامي والمقاومة والثورة، والتي تشهد اشتباكاً متواصلاً مع المحتل، وتصاعد رغم كل المؤامرات التأييد والمزاج الشعبي العام المساند للجهاد الإسلامي وجناحها العسكري سرايا القدس، ومع اتساع قاعدة التأييد الشعبي، وفي ظل وجود هذه الحاضنة لمن ثبت بأنه الأخلص في الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، ازدادت محاولات عزل الحركة عن محيطها ولكن دون جدوى، وحتى كل محاولات العزل السياسي لن يُكتب لها أي نجاح. وفي هذا السياق خرجت بعض الأبواق لتنال من الجهاد وأمينها العام، ولكن مرة أخرى دون جدوى، فأي قراءة واقعية وصادقة ومنطقية، يمكن أن تدرك مدى حرص الجهاد الإسلامي على الوحدة على قاعدة الحفاظ على الثوابت، ولكن على ما يبدو أن البعض أدمن لغة المجاملات وإنكار الحقائق، وأن هذا البعض لا يمكن أن يتقبل هذا "النهج الثوري" والواقعية في خطاب الجهاد الإسلامي وأمينها العام، الذي يعري بشكل أو بآخر تلك الأقطاب ويظهر مدى عجزها وخذلانها.
إن التشخيص الدقيق لما وصلت إليه الحال لاسيما في الضفة الغربية مع تصاعد مسلسل الاعتقالات السياسية على أيدي الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، بحق قادة ومجاهدي حركة الجهاد الإسلامي، والتي أكدت رغم هذا الجرح النازف وبعد تحقيق كل الانتصارات على منظومة القتل الصهيونية، بأنه ومهما حصل سيبقى السلاح مشرعاً في وجه المحتل فقط، وذلك برغم كل الاستهداف المتواصل، إن كل ما يحصل يؤكد حالة العبث التي تقودها الأجهزة الأمنية والسلطة الفلسطينية بشكل عام، ولاسيما أن هذه الهجمة على الجهاد الإسلامي جاءت بعد أيام على معركة جنين حيث خرج المحتل بكل عديده وعدته وترسانته العسكرية، يجرّ ذيول الخيبة والهزيمة أمام ثلة من المجاهدين من أبناء سرايا القدس في كتيبة جنين، رغم قلة الإمكانات وتواضعها.
بمرور السنوات، باتت السلطة الفلسطينية التي أنهت عقدها الثالث من العبث السياسي ورفضها الإقرار بعجزها وفشل خيارها، باتت حاجة إسرائيلية ملحة هدفها الوظيفي هو كبح التطلعات الوطنية الفلسطينية.
وفي هذا السياق يؤكد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ومن جديد، إصرار الكيان على “كبح تطلعات الفلسطينيين لدولة مستقلة”. لكنه في الوقت نفسه، أكد “حاجة إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية”، بقوله: “نحن لا نريدها أن تنهار. نحن على استعداد لمساعدتها من الناحية الاقتصادية. لدينا مصلحة بأن تواصل السلطة عملها… إنها تقوم بالعمل نيابة عنا”!
"كيف ننتصر على إسرائيل"؟ سؤال كبير يلخص الصراع على الأرض والهوية والتراث والتاريخ ويصب في صلب العقيدة النضالية، سؤال بحاجة قبل الإجابة عليه إلى تحمّل الجميع لمسؤولياتهم الأخلاقية والوطنية، وتبني برنامج ينطلق من قاعدة الحفاظ على الثوابت، ومقارعة المحتل بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، وبالتأكيد على رأسها المقاومة المسلحة بأشكالها كافة، ولكن الأكيد كذلك أن هذا الانتصار لن يكون دفعة واحدة، بل عبر إدامة الصراع والمشاغلة ومراكمة القوة في السياق التحضير للمعركة الفاصلة، وهذا وعد الله على أرض فلسطين، وأن التحرير النهائي بحاجة إلى الكل الفلسطيني والعربي والإسلامي، وكل حرّ وشريف يؤمن بعدالة قضية فلسطين وحقوق شعبها، وأن الأهم من ذلك بأن التحرير والانتصار لن يكون عبر تقديم التنازلات والمفاوضات العبثية والتفاهمات والاتفاقات الأمنية، وضرب الإجماع الفلسطيني الشعبي حول خيار المقاومة، وصولاً حتى إلى تجاهل قرارات وتوصيات لصالح «استراتيجية الخروج من أوسلو»، وتجاهل تطبيق قرارات المجلس الوطني، (30/4/2018) والمجلس المركزي في دورتيه (15/1/2018) و(5/3/2015) وضرورة فك الارتباط بأوسلو، وبروتوكول باريس والتزاماتهما، وتوسيع الاشتباك الميداني مع الاحتلال، عبر الانتفاضة والمقاومة.. وعلى كل ما تقدم فليقولوا لنا إذاً: ما هي إنجازاتهم؟! عبر كل تلك السنوات من العبث، سؤال لأصحاب "الواقعية السياسية" وتبني نظرية "المرونة" في إدارة صراع تاريخي بحجم فلسطين وشعبها، فهل من مجيب؟