عمرو علان
قَبْل أسبوعين بالتمام على بدء العدوان العسكري الواسع الأحدث على مخيَّم جنين في 3 تموز 2023، حصل تطورٌ نوعيٌّ في المخيّم حمل في طياته مؤشراتٍ على طبيعة المرحلة القادمة في الضفَّة، إذ في 19 حزيران 2023، حاولت قوةٌ مدرَّعةٌ صهيونيةٌ الدخول إلى المخيَّم، إلَّا أنَّ مقاتلي “كتيبة جنين” تمكنوا من استدراج أحد المدرَّعات إلى كمينِ عبواتٍ ناسفةٍ شديدة الانفجار يتم تفجيرها عن بُعدٍ، مما أدى إلى إخراج المدرَّعة من الخدمة، وإفشال عملية الاقتحام برمَّتها، وقد استخدم مقاتلو “كتيبة جنين” في عملية الاستدراج تكتيكاتٍ قتاليةٍ مدروسةٍ لم تظهر سابقًا في المخيَّم.
لقد أظهرت تلك الواقعة انتقال “كتيبة جنين” إلى مستوىً جديدٍ من العمل الميداني، سواءً من جهة تحسُّن قدراتها التصنيعية للمتفجرات والعبوات الناسفة الموجهة، أم من جهة توظيف المناورات القتالية المناسِبة في ساحة المعركة، وقد بشَّر ذلك بافتتاح الضفَّة لمرحلةٍ جديدةٍ من العمل المقاوم، تختلف نوعيًا عن مرحلة عمليات “السكاكين” ومرحلة عمليات الاشتباك المسلَّح الفردي التي تلتها، كما أظهرت تلك الواقعة حجم الدعم اللوجستي الذي تلقاه المقاومون خلال الفترة الماضية، والذي أثمر إنجازًا في “معركة جنين” الأحدث في 3 تموز 2023.
لكن من أبرز ما أظهرته تلك الواقعة أيضًا، كان فشَل أساليب الاختراق والاحتواء بالقوة الناعمة في المخيَّم، التي مارستها السلطة خلال الفترة الماضية بهدف كبح تنامي المقاومة، علمًا بأن تلك الأساليب كانت قد أعطت نتائج مقبولةٍ – من وجهة نظر العدو ولو جزئيًا – في مناطق أخرى من الضفَّة، والتي كانت حصيلة “الاجتماع الخماسي” في مدينة العقبة في 26 شباط 2023، واجتماع شرم الشيخ اللاحق في 19 آذار 2023، بين ممثِّلين عن كلٍ من حكومة الاحتلال والسلطة الفلسطينية برعايةٍ أميركيةٍ، إذ تعهد الجانبان “خفض التصعيد على الأرض ومنع المزيد من العنف” على ما جاء في نتائج اجتماع العقبة سيِّء الصيت، ويأتي العدوان العسكري الواسع الأحدث على المخيَّم في 3 تموز 2023 ضمن هذا السياق.
لقد وضَع إخفاق أجهزة السلطة الأمنية في “خفض التصعيد على الأرض ومنع المزيد من العنف” الاحتلال أمام اختبارٍ جديٍّ في مخيَّم جنين، فإما الاستمرار بالسياسات السابقة دون طائل، وإما اللجوء إلى العمليات العسكرية الواسعة، في محاولةٍ لإعادة عقارب الساعة في المخيَّم إلى الوراء، بغرض وقف المسار الجديد الذي افتتحه “كتيبة جنين” وباقي الفصائل مع حلول شهر حزيران الماضي.
يعد إحباط تنامي قدرات المقاومة في المخيَّم مصلحةً أساسيةً للاحتلال، إذ تمثِّل الضفَّة ساحة الاشتباك الإستراتيجي بينه وبين قوى المقاومة في هذه المرحلة، لكن بالتوازي أيضًا، توجد مصلحةٌ للسلطة في تحجيم ظاهرة المقاومة وحالة “كتيبة جنين” في المخيَّم أو القضاء عليهما نهائيًا، إذ تدرك السلطة أنَّ تعاظم قوة المقاومة في الضفَّة واستمرارها يؤدي إلى زيادة ضعف قبضتها الأمنية، التي تراجعت بالفعل في الضفَّة كما يقر الجميع، وتشعر السلطة إزاء ذلك بفقدانها لدورها الوظيفي، أو كما تسميه الالتزام “بجميع الاتفاقات السابقة” بينها وبين الاحتلال، أو بصورةٍ أوضح “التنسيق الأمني”، وقد نجحت “كتيبة جنين” والمقاومة في تجاوز الاختبار العملي الأول للمستوى القتالي الجديد الذي وصلت إليه، إذ تمكنت من إفشال أهداف عدوان 3 تموز 2023، فقد خرجت منه بأقل الخسائر البشرية في عديد المقاتلين والقيادات الميدانية، برغم حجم الدمار الكبير الذي أصاب البنية التحتية المدنية للمخيَّم، وقد بدى هذا النجاح في تعريض جيش الاحتلال لكمائن العبوات الناسفة أثناء انسحابه، واستمرار الاشتباكات المسلَّحة حتى خروجه تمامًا من المخيَّم.
لقد شكَّل هذا النجاح نكسةً لجيش الاحتلال، لكنَّه شكَّل ضربةً لمشروع السلطة القائم على “التنسيق الأمني” كذلك، لا يعني هذا أنَّ قيادات السلطة كانت فرحةً بسقوط الشهداء من المدنيين، لكنها على الأرجح كانت تتطلع إلى إنهاء حالة المقاومة في المخيَّم، فمشروعها العلني مبنيٌ على أساس إنهاء كل أشكال المقاومة المسلَّحة في الضفَّة.
من هنا لم يكن مستغرَبًا وقوفها في اجتياح المخيَّم موقف المترقِّب، بل على العكس، فإنَّ أي موقفٍ آخرٍ منها كان سيكون المستغرَب، إلَّا إذا كانت ستخرج من مهزلة “أوسلو”، وتتراجع بصورةٍ فعليةٍ ونهائيةٍ عن جريمة “التنسيق الأمني” مع الاحتلال لحماية أمن المستوطنات، وهذان أمران يبدوان عصيّان على الوقوع.
لقد كان طرد رموز “التنسيق الأمني” من مراسيم تشيع شهداء مخيَّم جنين تعبيرًا عن سخط الشارع الفلسطيني من الحال المخزي الذي وصلت إليه السلطة بكل المعايير الوطنية، إلَّا أنَّ البيان الهستيري الذي صدر عن السلطة عقب ذلك باسم حركة “فتح”، والذي قالت فيه “نعلنها علنيةً، ومنذ هذه اللحظة، بأنَّ حركة الشر الحمساوية هي حركةٌ محظورةٌ على هذه الأرض الطاهرة، بالإضافة إلى كل من يتساوق معها من قريبٍ أو بعيدٍ”، لم يكن ردة فعلٍ على تلك الحادثة فقط، إنما كان في العمق تعبيرًا عن مدى التخبط الذي وصلت إليه السلطة بعد إخفاق الاحتلال في اجتثاث الحالة المقاوِمة في المخيَّم، بما يعنيه ذلك من تهديدٍ مباشرٍ لاستمرارها الذي بات مرتبطًا بوجود الاحتلال ذاته، بعدما أسقطت من يدها كل أوراق القوة في مواجهته، وذلك حينما ارتضت لعب دور الحارس لدى الاحتلال بحربها الأمنية على سائر فصائل المقاومة الفلسطينية والعربية.
يمكن القول بعد فشَل العدوان الأحدث على مخيَّم جنين، بأنَّ الضفَّة قد أسَّست قاعدةً صلبةً لمرحلة جديدة من العمل المقاوم، تصلح للبناء عليها وتطويرها، لكن في ذات الوقت، يشير ذلك إلى انتقال الضفَّة لمرحلةٍ أكثر سخونةً، يرتفع معها منسوب القلق من إقدام السلطة وأجهزتها الأمنية، بسبب حالتيّ الهستيريا والتخبُّط اللتين تعيشهما بعد التطورات الأخيرة، على خطواتٍ مجنونةٍ بالذهاب إلى الاصطدام المباشر والخشن مع كتائب المقاومة في الضفَّة، بدلًا من أساليب الاحتواء والعمل الأمني اللذين اتبعتهما في مواجهة تلك الكتائب خلال المراحل الماضية.
المصدر: رأي اليوم