بقلم/ عامر خليل
دائما وصف الجيش الإسرائيلي وفق القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية بأنه جيش الشعب كما يتم تعريفه ببوتقة صهر لليهود المستجلبين إلى فلسطين المحتلة من دول وثقافات أخرى وأطلق عليه ايضا اسم الاجتماع الاسرائيلي حول الجيش كعامل موحد لكل الإسرائيليين.
كل ذلك أخذ يدور حوله تساؤلات جدية بعد ان ولج الانقسام المجتمعي والسياسي الى داخل وحدات ومكونات الجيش الإسرائيلي بما فيها أجهزة الأمن وقد برز مؤخرا عاملين ساهما في انتشار الخلاف والانقسام بشكل أكثر حدة:
أولا: التعديلات القضائية التي بدأت حكومة نتنياهو في ادخالها على منظومة القضاء الإسرائيلية والتي فجرت مظاهرات اسبوعية رافضة لها كان لضباط احتياط في الجيش الإسرائيلي دورا رئيسيا فيها ووصل الأمر إلى التهديد بالامتناع عن الخدمة من قبل العديد من رجال الاحتياط في اذرع البر والبحر والجو واجهزة الأمن الموساد والشاباك والاستخبارات العسكرية "أمان“ والوحدات الخاصة.
ثانيا: قانون التجنيد الذي أرادت حكومة نتنياهو تشريعه بناء على اتفاق ائتلافي مع احزاب الحريديم "يهدوت هتوراه وشاس" والذي هدف لقوننة عدم خدمة الحريديم في الجيش الإسرائيلي بتشريع تصادق عليه الكنيست وليس وفق اعفاء خاص او تفاهمات حول اعداد المسموح لهم بالإعفاء.
تخلخل الخلاف حول التعديلات القضائية الى الساحة السياسية حيث هاجم أعضاء في الحكومة الإسرائيلية ظاهرة التهديد بالامتناع عن الخدمة ودعا على سبيل المثال وزير الاتصالات شلومو كرعي إلى فصلهم من الجيش وقال "ليذهبوا الى الجحيم"، فيما كان الوقع الأكبر لكلمات نتنياهو التي وصف فيها الرافضين للخدمة بالفوضويين ما أثار ردود فعل غاضبة اتجاهه واتهم بانه يهين الجيش الإسرائيلي.
وجه نتنياهو اتهاما لقيادة الجيش بالتهاون مع رافضي الخدمة وتشجيعهم عليها وإدخال السياسة الى منظومة الجيش ما أثار ردود فعل عنيفة من ضباط كبار متقاعدين كان أبرزهم رئيس الأركان الأسبق دان حلوتس الذي وصف نتنياهو بالفار من الخدمة في حرب لبنان الأولى عام ١٩٨٢ عن سبق اصرار وترصد، ولوحظ ت مشاركة واسعة في المظاهرات ضد التعديلات من قبل الكثير من ضباط الاحتياط منهم موشيه يعلون وزير الحرب الأسبق ورؤساء اجهزة الأمن السابقين منهم تامير باردو رئيس الموساد الأسبق ونداف ارغمان رئيس الشاباك السابق.
وصل الخلاف حول الجيش الإسرائيلي إلى مراسم احياء ما يسمى ذكرى قتلى جيش الاحتلال الذي يتم بحضور عائلات الجنود القتلى في المقابر العسكرية والتي هددت بعدم الوصول اليها ومقاطعة الكلمات التي يلقيها ممثلو الحكومة امام هذه العائلات بجانب تنظيم مظاهرات قرب المقابر من قبل معارضي التعديلات والتشويش على الكلمات التي تلقى مما اضطر ستة وزراء وأعضاء كنيست إلى إلغاء وصولهم للمقابر، فيما شهدت مقبرة بئر السبع احتكاكات وصراخ خلال إلقاء الوزير ايتمار بن غفير كلمته امام عائلات القتلى ودرست الوزيرة ميري ريغف المسؤولة عن المراسم فيما يسمى جبل "هيرتسل" التي تبث بشكل مباشر على شاشات القنوات الاسرائيلية بحجب النقل حال وقوع مشادات ومقاطعة لكلمات المتحدثين وبث بدلا منها افلام تم تجهيزها مسبقا للمراسم.
على وقع الخلافات والمظاهرات حول التعديلات القضائية طرحت مجددا مسألة خدمة الحريديم" المتدينين" في الجيش الإسرائيلي وفق الاتفاق الائتلافي الذي تم بين نتنياهو وأحزاب الحريديم بتشريع قانون يصادق عليه في الكنيست يمنح اعفاء دائما للحريديم من الخدمة العسكرية والسماح لهم بمواصلة دراستهم في المعاهد والمدارس الدينية بدلا من الاعفاء المؤقت لعدد محدود منهم، وقد اشترط حزب يهدوت هتواره الحريدي موافقته على ميزانية الدولة قبل شهرين بالشروع في إجراءات تشريع القانون وصولا الى اقراره بالقراءة الثانية والثالثة بمصادقة الكنيست نهائيا على ميزانية الدولة.
القى اعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية بظلاله على احتفالات ذكرى قتلى الجيش حيث رفعت مطالبات من قبل عائلات القتلى بعدم مشاركة وزراء وأعضاء كنيست لم يؤدوا الخدمة العسكرية في هذه المراسم وكان ذلك احد أسباب الغاء مشاركة ستة وزراء وأعضاء كنيست بينهم الوزير الحريدي رئيس حزب يهدوت هتواره يعقوب غولدنكونف.
لم تجد مسألة اعفاء الحريديم حلا لها منذ ان منحهم رئيس الوزراء الأول دافيد بن غوريون اعفاء من الخدمة عام 1948 وكان عددهم في حينه لا يتجاوز ال 200 شخص لكن ازياد عدد الحريديم بشكل مطرد ووصول عدد المعفين من الخدمة الى آلاف وليس مئات وحصولهم على امتيازات ومخصصات مالية لتفرغهم للدراسة التوراتية فجر التناقض الحريدي العلماني في المجتمع الاسرائيلي عبر عنه يائير لبيد رئيس حزب "يوجد مستقبل" بالقول "لن نقبل ان نخدم في الجيش وندفع الضرائب والآخرون لا يخدمون ويحصلون على أموال من الدولة".
لم تنجح كل المحاولات والمقترحات لإيجاد حل وسط حول مسألة الاعفاء خلال العقود الماضية في الوصول الى اتفاق حولها ومنها لجنة "كاهان" 1986، لجنة "طال" 1999، قانون "طال" 2002، لجنة "بيري" 2013، قانون المساواة بالعبء 2014، وكذلك ادخال اعداد محدودة من الحريديم للخدمة في الجيش وزيادتها بشكل تدريجي حيث كان الخلاف يتفجر مجددا مع تغير الحكومات بعد الانتخابات وتلجأ الحكومة الجديدة إلى تشريع قانون لخدمة الحريديم وتلغيه الحكومة التالية او تلغيه المحكمة العليا إلى أن احتدم الخلاف مع تشكيل نتنياهو حكومته السادسة بمشاركة الحريديم الذين يصرون على تشريع قانون اعفاء الحريديم من الخدمة قبل إقرار ميزانية الدولة في دورة الكنيست الصيفية الحالية.
سبب دخول بعض الحريديم وازدياد عدد المنتمين للصهيونية الدينية للخدمة في الجيش وخدمة عدد محدود من الحريديم معظمهم من حزب شاس الى انتقال التناقض الديني العلماني الى داخل جيش الاحتلال بمطالبة المتدينين مراعاة الشريعة اليهودية بفصل النساء عن الرجال داخل الجيش ورفضهم الخدمة مع النساء في الوحدات المختلطة والسماح بأداء الشعائر الدينية اثناء التدريبات والحفاظ على حرمة السبت، والباس الأوامر العسكرية قيمة توراتية.
وتعتبر خدمة الحريديم في الجيش الإسرائيلي أحد عوامل التفجير داخل المجتمع الإسرائيلي وتحمل العديد من الانعكاسات:
1-تضرر وتراجع نمو الاقتصاد الإسرائيلي فازدياد نسبة الحريديم وتحولهم الى القطاع الأكبر بين الإسرائيليين يعني عبئا ماليا أكبر واستنزاف ميزانية الدولة لصرف مزيد من الأموال التي تخصص لهم اثناء الدراسة.
2-ستطرح معادلة الخدمة في الجيش ودفع الضرائب بقوة خلال الأشهر القادمة وعدم قبول عدم خدمة الحريديم في الجيش وعدم دفعهم الضراب والتي قد تجر ورائها رفضا للخدمة من الجانب الآخر العلماني مع فتح خيار الهجرة العكسية وعدم قبولهم العيش في دولة شريعة يهودية لا يخدم فيها المتدينون.
3- تراجع النسبة العامة للخدمة في الجيش الإسرائيلي مع ازدياد عدد الحريديم المعفين من الخدمة، والمؤشر على ذلك تراجع الخدمة في الجيش في العام الماضي الى 63% بعد أن كانت 83% قبل عقدين ومتوقع ان تصل بعد عقدين الى 50% بما يحمله ذلك من دلالات متعددة وعلى رأسها انتهاء مقولة جيش الشعب.
4-ارتفاع الميل لدى كبار الضباط لإنهاء خدمتهم في الوحدات النوعية على غرار ضباط سلاح الجو والسيبر والتكنولوجيا..واتجاههم نحو سوق العمل الحر.
5-هيمنة ضباط من الصهيونية الدينية على القيادات العليا في جيش الاحتلال وانتقال الهوية الدينية التوراتية الى الجيش بشكل متزايد مع تحول نسبة خدمة المتدينين في الرتب الدنيا الى 50%، والرتب العليا لـ30%، وما يحمله ذلك من تداعيات على أداء الجيش وغلبة الفقه التوراتي على الأوامر العسكرية.
6- استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي في الكيان الإسرائيلي فالأحزاب الحريدية يمكن ان تكون سببا في تفكك حكومة نتنياهو إذا لم يقر قانون اعفاء الحريديم من الخدمة في الجيش.
7- استمرار حالة الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي وتحول عدم خدمة الحريديم الى أحد العوامل الرئيسية في ذلك بجانب الانقسام حول التعديلات القضائية.
الانقسام داخل وحول الجيش تحول إلى ظاهرة تنخر في المجتمع الإسرائيلي وتصيبه بمزيد من الضعف وستكون أحد الأسباب الرئيسية في تفككه والاقتراب من نبوءة بعض الكتاب الإسرائيليين لزوال الكيان الإسرائيلي في العقد الثامن لنشأته.