بقلم: حسن لافي
في الوقت الذي يعمل "الجيش" الإسرائيلي على توسيع عمليته في مدينة رفح في جنوب قطاع غزة، يتفاجأ أنه يتلقّى ضربات موجعة في مخيم جباليا في شمال قطاع غزة، وفي منطقة حي الزيتون في مدينة غزة، ويضطرّ لواء المظليّين في "الجيش" الإسرائيلي للعودة إلى القتال في تلك المناطق، ويقتل أكثر من خمسة من جنوده وضباطه في ذلك القتال، برغم أنّ "الجيش" الإسرائيلي قد اجتاح تلك المناطق عدة مرات في السابق، وبذلك يجد "الجيش" الإسرائيلي بعد سبعة أشهر من القتال والحرب والدمار في قطاع غزة، أن عليه أن يعود لخوض معارك ضارية في المناطق التي أعلن سيطرته العسكرية عليها وتدمير المقاومة فيها.
الأمر الذي يعتبر إعلاناً ميدانياً مباشراً على فشل "الجيش" الإسرائيلي في تحقيق الهدف المركزي المعلن للحرب من قبل المستوى السياسي الإسرائيلي، وهو سحق قدرات المقاومة واجتثاثها بالكامل، وهو ما اعتاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يصفه بتحقيق الانتصار الحاسم.
أما على المستوى العسكري، فقد اكتشف "الجيش" الإسرائيلي أنه بعد تجنيد كامل قدراته القتالية لحرب الإبادة على غزة، يجد نفسه يعود إلى استراتيجية "جزّ العشب"، الاستراتيجية القتالية ذاتها التي كانت سائدة قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، والتي ترتكز على فرضية أساسية أنه لا يمكن لـ "إسرائيل" و"جيشها" الإجهاز الحاسم والتام على المقاومة الفلسطينية في غزة، خاصة أن استراتيجية "جزّ العشب" تتميّز بابتعادها عن الأهداف العسكرية الخيالية وتقترب أكثر نحو أهداف واقعية يمكن تحقيقها، والتي تتمثّل في استخدام القوة العسكرية الإسرائيلية لإضعاف القدرات العسكرية للمقاومة الفلسطينية، وعدم السماح لها بالمراكمة لتصبح تهديداً استراتيجياً على "إسرائيل". لكنّ استراتيجية "جزّ العشب" لا تنهي التهديد الأمني والعسكري بل تبقيه في المستوى المقبول إسرائيلياً.
تعتمد خطة "الجيش" الإسرائيلي العسكرية على أنه بعد تدمير قدرات المقاومة المنظّمة على مستوى الألوية والكتائب والسرايا، من خلال عمليات عسكرية كبرى ذات زخم قتالي كبير وواسع، يتبقّى بعض الخلايا العسكرية المقاومة المنفردة أو المجموعات الفدائية المحلية، التي من السهل بحسب الخطة الإسرائيلية التعامل معها بشكل سلس من خلال حرية الحركة والعمل العسكري "للجيش" الإسرائيلي في تلك المناطق.
لكنّ ما حدث في شمال قطاع غزة، وحي الزيتون في مدينة غزة، وبحسب شهادات المحلّلين العسكريين الإسرائيليين أنّ ما واجهه "الجيش" الإسرائيلي هناك كان عبارة عن قتال منظّم لمجموعات عسكرية مسلّحة بشكل قوي، ومرتبطة بقيادة مركزية، قادرة على التواصل الرأسي والأفقي بينها وبين سراياها وكتائبها المقاتلة، وتدمج بين القدرات القتالية الميدانية، من جهة، وبين القدرات الصاروخية من جهة أخرى، وتنوّع تكتيكاتها العسكرية بحسب توقيتات زمنية تتحكّم بها قيادة المقاومة وفق الأهداف السياسية أو الميدانية التي تريد تحقيقها، ناهيك عن القدرات الإعلامية التوثيقية لتلك العمليات العسكرية للمقاومة، كدليل على أنّ تشكيلات المقاومة العسكرية اللوجستية الإعلامية ما زالت قائمة وفاعلة ومؤثّرة.
هذا التباين بين حقيقة الوضع العسكري الإسرائيلي في غزة، وبين الأهداف السياسية المطروحة من قبل المستوى السياسي الإسرائيلي، يوضح طبيعة الخلاف المركزي داخل المشهد السياسي الإسرائيلي، والأهم أنه يبرز الصدام الحاد بين رؤية المؤسسة العسكرية و"الجيش" لأهداف الحرب الواقعية، وبين الشعارات السياسية الأقرب للخياليّة التي يطلقها المستوى السياسي وخاصة نتنياهو وتحت ضغط شركائه من الصهيونية الدينية داخل ائتلافه الحكومي.
لا تُستبعد احتمالية إنشاء حكم عسكري إسرائيلي في قطاع غزة لفترة زمنية ما بين ثلاث إلى خمس سنوات لإدارته حتى يستطيع إنهاء المقاومة وحكم حماس نهائياً.
وهذا التصوّر برغم ما يخفي في طيّاته من طموحات عودة الاستيطان إلى غزة وإعادة احتلالها بالكامل، إلا أنه أيضاً دليل على أنّ هدف تدمير المقاومة بالكامل يحتاج إلى وقت طويل، وأن "إسرائيل" سرعان ما ستجد نفسها في حرب استنزاف مستمرة، خاصة أن فرض الحكم العسكري الإسرائيلي على غزة يتطلّب وجود فرقتين عسكريتين إضافيتين بشكل دائم، بحسب تقديرات المؤسسة العسكرية الإسرائيلية.
هذا سيؤثّر سلبياً بشكل فعلي على استعدادات "الجيش" الإسرائيلي للتهديدات الأمنية في بقية الساحات الأخرى، وخاصة الجبهتين الإيرانية واللبنانية الأكثر خطورة، إضافة إلى أن ذلك وصفة سياسية لاستمرار الحرب بأشكال أخرى، الأمر الذي يصبّ في مصلحة نتنياهو السياسية، على حساب الأمن القومي الإسرائيلي.
ما جعل الوزير ورئيس المعسكر الرسمي بني غانتس يتحرّك سياسياً، ومن قبله وزير الحرب الإسرائيلي يؤاف غالنت، ليصل الانقسام إلى قيادة مجلس الحرب الإسرائيلي، إيذاناً لانقسام أكثر حدّة وشدّة داخل الشارع الإسرائيلي.