أرأيت إلى ذئب يعرض وساطته لفض شجار بين شاتين؟! هذا ما فعلته إسرائيل. عرضت وساطتها لوقف الاقتتال بين الجيش السوداني والدعم السريع الذي انفجر في الخامس عشر من هذا الشهر، وهي التي تجتمع شبهات كثيرة على دور أصابعها في انفجار الاقتتال من خلال مخابراتها التي تكثف تواجدها في السودان وظهر للعلن منذ إعلان البلدين عن نية تطبيع علاقاتهما في أواخر 2020 مقابل رفع أميركا اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وتقديم بعض المساعدات إليه. ولإسرائيل علاقة بطرفي الاقتتال إلا أنها تبدو أكثر ميلا للدعم السريع الذي تراه مناوئا ومهددا فعالا لوحدة السودان لوقوفه في وجه القوة الشرعية الرسمية فيه، أي الجيش السوداني، وتلكئه في الانضمام إليها.
وزارها سابقا عبد الرحمن شقيق حميدتي، وفي حديث لقناة” كان ” التابعة لهيئة البث الإسرائيلية شبه يوسف عزت المستشار السياسي لحميدتي ما يواجهه الدعم السريع من الجيش السوداني بما تواجهه إسرائيل من المقاومة الفلسطينية التي وصفها بالإرهابية، وتعهد بهزيمة الجيش فاتحا الباب لاستمرار الاقتتال والموت والدمار وتشريد المواطنين السودانيين داخل البلاد وإلى دول الجوار وسواها من الدول لمن استطاع إليها سبيلا، وهو ما يحدث دائما في كل حرب أهلية. وتوضح الشواهد أن ما سيحدث في السودان سيكون مخيفا قياسا إلى حروب أهلية أخرى نظرا لكون الطرفين المقتتلين قوتين عسكريتين، ولكثرة الأطراف الخارجية التي تتدخل في اقتتالهما لمصالحها الخاصة، وأخطر هذه الأطراف على السودان هما أميركا وإسرائيل.
ويجاهر الدعم السريع بعدائه للقوى الإسلامية في السودان، وهذا يرضي أميركا وإسرائيل، ويستقطب تأييدهما له. ويهمل الدعم السريع كليا فعالية إسرائيل الكبيرة في فصل جنوب السودان عن شماله في 2011 بعد أكثر من ثلاثين عاما من الحرب بين الجنوب والشمال وقفت فيها إسرائيل مع الجنوب الذي أصر على الانفصال في وجه رفض حكومات الشمال المتعاقبة له. ويبدأ الآن تنفيذ مخطط تقطيع الشمال إلى أربع دويلات صغيرة، وهو جزء من مخطط كبير لتقطيع كل الدول العربية إلى هذا النوع من الدويلات التي يسهل التحكم فيها لصغرها وضعفها والتي ستكون إسرائيل موازنة بها عملاقا كبيرا. وإنه لهزال عربي ما خطر على قلب أن تكون إسرائيل وسيطا بين طرفين متنازعين في بلد عربي واحد لم تكن ولن تكن له سوى الشر والموت والخراب. إنها وساطة ذئب بين شاتين ينوي أن يلتهمهما الواحدة تلو الأخرى.
اختفى كل العرب، اختفت مصر جارة السودان الذي كان حتى 1956 جزءا منها، وعدته دائما عمقها الاستراتيجي، وبين الشعبين وحدة قلبين، وحدة أحسن أحمد شوقي وصفها إذ قال:” فمصر الرياض وسودانها عيون الرياض وخلجانها” وأهلوه منذ جرى ماؤه عشيرة مصر وجيرانها”، وتواصلت على السنين الأهلية والعشرة والجيرة، وما أوهنها ما وقع من خلافات سياسية وترابية بين الطرفين. الخلافات مشروعة بين أقرب الناس آصرة ولحمة، والمهم هو كيفية إدارتها، ومنع ضررها على الآصرة واللحمة. الضعف العربي الرسمي فتح كل الأبواب لإسرائيل، وما عاد يصدها عن الهيمنة سوى المقاومة العربية والإسلامية في لبنان وسوريا وفلسطين وإيران. وضعف مصر الكبير أطلق يد إسرائيل في السودان، وجلب لها، لمصر، المهانة والبأساء فيه.
أهانت قوات الدعم السريع طياريها في مطار مروي، ودمرت عددا من طائراتها، وقتل محمد الغراوي الملحق الإداري في سفارتها. وطلاقة يد إسرائيل في السودان أغرتها بالوساطة بين بين الجيش السوداني وبين الدعم السريع. ولماذا لا يدخل اللص البيت ويسرق منه ما راقه فيه ما دام بابه مفتوحا؟! وإلى المهانة العربية التي فضحها عرض إسرائيل وساطتها بين الجيش السوداني وبين الدعم؛ هوى بلينكن وزير خارجية أميركا بمهانة أخرى على رأس العرب بإعلانه أن الدعم والجيش اتفقا على هدنة ثلاثة أيام في سائر البلاد. تكلم كأنه مسئول سوداني. قال المتنبي حقا:” من يهن يسهل الهوان عليه”، وقال خليل مطران حقا:” يا عبرة الدهر جاوزت المدى فينا”. إسرائيل وسيط خير وسلام بين الجيش السوداني وبين الدعم!” هزلت، وبانت كلاها من هزالها، وسامها كل مفلس”. تلكم هي حال العرب.