تجيد "إسرائيل" سياسة التحريف والتعويم، بالإنتقال من خيار إلى خيار، ومن موقف لموقف، والتحول من القضية الأساسية لقضايا فرعية أو مختلقة لا تكلفها ثمناً سياسياً كبيراً، وبالمقابل تفرض على الجانب الفلسطيني، وهو الطرف المباشر في سياسة تنتهجها "إسرائيل".
فعندما تواجه "إسرائيل" بنقد عن سياساتها التي تمارسها ضد الشعب الفلسطيني الذي يعاني من إحتلالها، وقوتها، قوانينها العنصرية، تذهب لإتهام الشخص أنه معادي لليهودية، وأنه يكره اليهود، ويتهم باللاسامية..!!
وتتأرجح "إسرائيل" بين أكثر من أي خيار تارة تتحدث عن هدوء مقابل هدوء في غزة، وأحياناً تلوح بخيار إدارة الإحتلال للضفة الغربية، ويذهب بعض المتطرفين من اليمين إلى ضم الضفة الغربية بالكامل والتعامل مع السكان كرقم يسعى للعيش، وأحياناً تتحدث عن خيار "مدن إسرائيلية" مقابل مستوطنات، وفي محاولة منها للتخلص من الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية تدفع الفلسطينيين نحو الأردن، وتذويب اللاجئين الفلسطينيين حيث يتواجدون، أو تشجيع الهجرة الهادئة لهم في العديد من الدول الأوربية.
ولقد جاءت عملية الإختطاف الأخيرة لثلاثة مستوطنين لتكشف عن كثير من هذه الأهداف والنوايا والخيارات. فلقد جاء رد فعل "إسرائيل" أبعد بكثير من سياسات عقابية للشعب الفلسطيني، لتذهب بعيداً في محاولة تفكيك الضفة الغربية من بنية المقاومة، وتفريغها من قياداتها وخصوصاً حماس، والتفكير في إبعادهم لقطاع غزة.
وهنا التساؤل مهم: لماذا هذه السياسة في الضفة الغربية؟ ولماذا قطاع غزة أن تتحول لملاذ للمبعدين؟!
هذه السياسة توضح لنا ماذا تريد "إسرائيل" من الضفة الغربية، وهنا تلعب الإعتبارات الإستراتيجية والموقع الجغرافي للضفة الغربية ووقوعها في قلب الدائرة الأولى لأمن "إسرائيل"، أن هدف "إسرائيل" الواضح ليس المفاوضات، وليس الوصول إلى تسوية سياسية تحول الضفة الغربية لدولة فلسطينية تتعارض كلية مع أهداف "إسرائيل" الأمنية.. "إسرائيل" تريد الضفة الغربية خالية من أي تهديد لأمنها من قبل المقاومة، ومن هنا تفكيك بنيتها، وإعتقال قيادتها ومحاولة إبعادهم، ومن ناحية أخرى تريد سلطة أمنية وليس سلطة سياسية.. سلطة فلسطينية وظيفتها تحقيق الأمن لـ"إسرائيل"، وضرب المقاومة فيها، وهي بهذه السياسة تضرب الكينونة الفلسطينية الواحدة، وتضرب أي محاولة للمصالحة الفلسطينية، وتحاول أن تحيي المشاريع الإقليمية لحل القضية الفلسطينية.
ففي ظل حكومة يمينية متشددة تؤمن بالإستيطان، وبعدم الإعتراف بالدولة الفلسطينية، وفي سياق تصوّر "إسرائيل" لنفسها أنها دولة عظمى في علاقاتها بالولايات المتحدة، لا أعتقد أن "إسرائيل" متعجلة من التسوية السياسية، ومن التفاوض طالما أنها ترى نفسها قادرة على فرض الخريطة السياسية التي تسعى لفرضها على الفلسطينيين، ومستفيدة بلا شك من الأخطاء الفلسطينية، وغياب الرؤية الفلسطينية الواحدة لأي من الخيارات التي على الفلسطينيين الإعتماد عليها لإحتواء "إسرائيل" وعزلها دولياً.
وهنا تحاول "إسرائيل" تطبيق سياسة التحريف على عملية الإختطاف، بالإستفادة بتصوير أن القضية الأساسية هي قضية أمنية مع الفلسطينيين، وأن السلطة عاجزة على فرض سيطرتها على غزة، وأن الرئيس عباس لا يملك فرض خياراته، وأنه في واد وحماس في واد آخر، وأن المصالحة الفلسطينية لا ترتبط بالقدرة على التفاوض.. وهذه العملية هي التي خلقت حالة من الإرتباك والتخبط الفلسطيني، وأعادت أجواء الإنقسام من جديد، وأعادت الخطاب السياسيى الفلسطيني لمفردات التهجم والتخبط، والتخوين والخيانة، والنتيجة المنطقية أن الخاسر الوحيد من هذه الحالة هو القضية الفلسطينية التي لا ينقصها تراجع، وتدهور على المستوى الإقليمي والدولي.
ولا شك أن "إسرائيل" نجحت في الإفادة من التحولات الإقليمية والدولية، فالنظام العربي يمر الآن في أسوأ حالاته، بل هو معرض للإنهيار بسبب الخلافات العربية العربية التي وصلت إلى حد العداء. وفي قلب هذا التدهور والتراجع الخطير الخاسر هي القضية الفلسطينية التي لم تعد قضية أمن عربية، بل والأخطر من ذلك أن الفلسطينيين وبسبب تجذر حالة الإنقسام يجدون أنفسهم في قلب هذا التدهور العربي، بل إنهم أول من سيدفع ثمنه..!!
وعلى المستوى الإقليمي، الدول الإقليمية المجاورة تبحث عن إنتزاع دور لها، وهذا هو هدفها، ولو كان ذلك على حساب القضية الفلسطينية.
ودولياً الملفات الدولية كأوكرانيا، وإعادة بناء النظام الدولي، لم تعد فيه القضية الفلسطينية لها تأثير أو حسابات، والمفارقة أن "إسرائيل" تدرك وتعرف كيف توظف هذه التحولات مستفيدة من الأخطاء الفلسطينية لترفع عنها نفسها الحصار والمقاطعة، ولتستمر في سياساتها التهودية والإستيطانية للأراضي الفلسطينية، وصولاً لواقع لن يعرف الفلسطينيون كيف يتعاملون معه..!!
أما لماذا غزة؟ فـ"إسرائيل" تدرك إن خيارات غزة محدودة ومحكومة بالتحولات في مصر، وبقدرة "إسرائيل" على فرض حصارها، وبقدرتها على تحريك الخيار العسكري معها ضرباً لكل البنية التحتية الفلسطينية.. ومحاولة توصيف غزة بأنها مقر للقوى المتشددة، والتي يسهل عليها وصفها بالإرهاب. هذه السياسات الإسرائيلية تبين خطورة الحالة الفلسطينية ودون إدراك لها سيدفع الجميع الثمن.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الأزهر- غزة