بقلم: حسن لافي
خرج أكثر من 100 ألف متظاهر داخل "إسرائيل" احتجاجاً على ما أسماه وزير القضاء الإسرائيلي ياريف ليفين بخطة تطوير القضاء، والذي اعتبرته قطاعات واسعة من الشارع الإسرائيلي انقلاباً على صلاحية المحكمة العليا الإسرائيلية، ومحاولة لسيطرة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية وبالتالي تصبح الحكومة صاحبة اليد الطولى في كامل النظام السياسي الإسرائيلي، خاصة أن حكومة بنيامين نتنياهو السادسة بشراكة كل من الصهيونية الدينية والحريديم، ذات توجهات دينية توراتية تتعارض مع التوجهات الليبرالية العلمانية لغالبية الشارع الإسرائيلي، الأمر الذي يطرح تساؤلات عن طبيعة المحكمة العليا، وصلاحياتها، وجذور الخلاف بينها وبين اليمين واليمين الديني في "إسرائيل".
المحكمة العليا تترأس الجهاز القضائي في "إسرائيل"، وهي الهيئة الأعلى فيها، ويعتبر رئيس المحكمة العليا هو رأس النظام القضائي برمته، والمحكمة العليا لها وظيفتان أساسيتان وفق قانون المحاكم، الأولى، صلاحية كونها كمحكمة استئناف على قرارات المحاكم المركزية وكل محكمة دونها، والثانية، محكمة التماس مدنية على قرارات وإجراءات حكومية أو دوائر رسمية، وفي هذه الحالة تتحوّل إلى محكمة "عدل" عليا في "إسرائيل"، حيث ينص القانون: "تنعقد المحكمة أيضاً كمحكمة عدل عليا، وبانعقادها تبت في قضايا تعتقد أن عليها أن توفّر فيها عوناً قضائياً لغرض تحقيق العدل وغير مندرجة ضمن صلاحيات محكمة أخرى".
تتشكّل المحكمة العليا بهيئات مختلفة العدد من القضاة، 3 أو 5 أو 7 قضاة حتى 15 قاضياً، العدد الأقصى لقضاة المحكمة العليا، حيث من يمتلك تحديد عدد قضاة الهيئة هو رئيس المحكمة العليا، بناء على نوع القضية وأهميتها وحساسيتها بالنسبة للحياة العامة.
تتمثّل أهمية قرارات المحكمة العليا بأن قراراتها ملزمة لكل محكمة دونها في "إسرائيل"، حيث تتحوّل قراراتها إلى سوابق قضائية وعرف قانوني يسري عمله في المحاكم كافة. لكن سوابقها القانونية ليست ملزمة للمحكمة العليا نفسها في أي قضية أخرى، فالمحكمة لها صلاحية أن تحكم بكل قضية بما ترتئيه من دون الالتزام بسوابقها القضائية.
تمارس المحكمة العليا دوراً مركزياً في النظام السياسي الإسرائيلي والاجتماعي من خلال دورها القانوني والقضائي في الحفاظ على حماية المشروع الصهيوني ووحدته الاجتماعية، في ظل مجتمع مهاجرين صهاينة فسيفسائي التشكيلة الاجتماعية والسياسية، من خلال عدة قضايا، أهمها:
أولاً، الحفاظ على حقوق الفئات اليهودية ذات التأثير الضعيف سياسياً، وحمايتها من تغوّل الأكثرية الحاكمة، وبالتالي تعوّض المحكمة العليا غياب مجلة حقوق إنسان دستورية داخل القانون الإسرائيلي، مستندة بذلك على توسيع صلاحياتها المنصوص بها في قانون أساس المحاكم بأقصى هامش ممكن من التفسيرات للنص القانوني، وخاصة في عهد رئيس المحكمة العليا أهرون باراك (1995 - 2006) الذي يعتبر المؤسس الفعلي للانقلاب القانوني في صلاحيات المحكمة العليا، وبدء سيرورة توسيع الفاعلية التحكيمية لها، التي أتاحت لها إبداء الرؤية القانونية في كل قضية ومجال، متجاوزة المرحلة السابقة التي التزمت بها المحكمة العليا وهي عدم التورّط في النظر في قضايا ذات طابع سياسي وأمني وتجنّب الاصطدام مع الحكومة والكنيست.
أضف إلى ذلك أنه بات من حق كل شخص أو جهة أن ترفع قضية أمام المحكمة العليا حتى لو لم تكن متضرّرة بالشكل المباشر من أي إجراء حكومي، أو تشريعي، الأمر الذي زاد من أهمية المحكمة العليا السياسي داخل النظام السياسي الإسرائيلي.
ثانياً، تؤدي المحكمة العليا دور الكابح القوي للسلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، من خلال عملها الرقابي على تشريعات الكنيست، ومدى موائمة تلك التشريعات لنصوص قوانين أساس الكنيست، والتأكد من عدم تعارضها معها. وبالمحصلة باتت المحكمة العليا تمثل أهم الكوابح لتغوّل الأغلبية داخل الكنيست، التي بالتأكيد ستتحكّم أيضاً بالائتلاف الحكومي (السلطة التنفيذية)، حيث يمنح القانون المحكمة العليا صلاحية إعطاء أوامر بالفعل أو الامتناع عنها لكل من سلطات الدولة، السلطات محلية، ولموظفيها ولأناس آخرين يقومون بوظائف عامة بموجب القانون، في إطار أدائهم لواجباتهم بموجب القانون، أو في حالة انتخابهم أو تعيينهم.
ثالثاً، مثّلت المحكمة العليا الجهة الأخيرة بعد انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين واليمين الديني، القادرة على عمل التوازن بين اليهودية والديمقراطية كمركبين رئيسين في هوية "إسرائيل" كما نصت "وثيقة الاستقلال"، من خلال حراسة المحكمة العليا للطابع الليبرالي والديمقراطي بين المجتمع اليهودي، مرتكزة على تفسير قوانين أساس حرية الإنسان وكرامته لعام 1992، وقانون حرية العمل لعام 1994، الأمر الذي جعل من المحكمة العليا أقرب إلى محكمة العدل، رغم عدم نص القانون على ذلك.
في المقابل، أثارت المحكمة العليا في "إسرائيل"، من خلال تلك الأدوار المهمة، التي تمارسها، الكثير من موجات الاعتراض ومن جهات مختلفة، تتمثل في:
- أنها قلّصت من نفوذ السلطة التشريعية، بل جعلت نفسها فوق الكنيست المنتخب، وتوسّعت في رفضها لتشريعاتها تحت عنوان عدم منطقية تلك القوانين وليس فقط معارضتها لنصوص قوانين أساس الكنيست، خاصة لما تملكه قرارات المحكمة العليا من قدرة على التأثير في الشارع الإسرائيلي، وقدرة على صنع أعراف وسوابق قانونية.
- النظر إلى قضاة المحكمة العليا على أنهم مجموعة من اليهود الغربيين "الأشكناز"، العلمانيين أصحاب البشرة البيضاء، خاصة مع غياب شبه كامل للقضاة الشرقيين والمتدينين بداخلها، مما يدفع مجموعات سكانية يهودية أخرى لاتهامها بالعنصر ية، وخاصة الحريديم والشرقيين. أضف إلى ذلك عملية التوازن بين اليهودية والديمقراطية التي تهدف إليها المحكمة العليا، التي اعتبرها المتدينون والشرقيون التقليديون تغليباً للطابع الديمقراطي على حساب الطابع اليهودي الديني، وتفضيلاً لحقوق الفرد الليبرالي على امتيازات اليهودية، وخاصة مع سماح المحكمة العليا للفلسطينيين برفع قضايا ضد الحكومة والجيش والتشريعات.
هذا الأمر اعتبرته الأغلبية اليمينية نوعاً من انتقاد الاحتلا ل وعرقلة لمفاعيله، رغم أن المحكمة العليا تصب في مصلحة الدعاية الإسرائيلية التسويقية لديمقراطيتها الزائفة، بل تشكّل حجة أمام القانون الدولي ومؤسساته بعدم المطالبة بالتحقيقات الدولية ضد جرائم الاحتلا ل اليومية، كون "إسر ائيل" تدعي امتلاك محكمة عليا ومنظومة قضاء مستقلة ديمقراطية.
الصراع على صلاحيات المحكمة العليا بين اليمين العلماني والديني وبين العلمانيين الليبراليين، أساسه صراع على هوية المشروع الصهيوني، بل هو محاولة من اليمين العلماني الشرقي والديني والحريدي لإعادة صياغة وثيقة استقلال جديدة تعظّم حكم الأكثرية وتنظر إلى الديمقراطية على أنها حكم الأغلبية فقط، وتمنح اليهودي كدين وليس فقط كقومية كل الصلاحيات لممارسة جرائم الاحتلا ل والعنصر ية والكرا هية من دون أي كابح حتى ولو كان الكابح من داخل النظام الصهيوني ويعمل لمصلحته.