تطلق على حكومة نتنياهو السادسة الأوصاف والأسماء بأنها حكومة العنف والأكثر تطرفا في تاريخ هذا الكيان القصير، فيما تختار تلك الحكومة أن تطلق على نفسها اسم حكومة حسم الصراع، وهي تبدي في تصريحاتها وسلوكها أنها جادة في إطلاقها هذا الاسم، والذي بدأت بوادر العمل عليه في الأسبوع الماضي في عملية تجربه (PILOT) عند زيارة بن غفير للمسجد الأقصى والتغطية الحكومية لهذه الزيارة، والتي سبقتها تهديدات فلسطينية صادرة من رام الله وغزة وأخرى أردنية على لسان الملك عبد الله الثاني شخصيا، الملاحظ أن شيئا من التهديدات لم ينفذ، وإنما ابتلع المهددون ألسنتهم مكتفين ببيانات الشجب والإدانة والاستنكار.
عند التوقيع على الاتفاق الانتقالي المعروف اصطلاحا باتفاق أوسلو عام 1993، نص الاتفاق على تشكيل السلطة الفلسطينية وحدد وظائفها بدقة على أنها حكم ذاتي محدود لإدارة السكان وحفظ الأمن، وسمح الاتفاق بعودة القيادة الفلسطينية لمنظمة التحرير ومعها بعض عناصرها، تم تسويق الاتفاق في حينه على انه انتصار مؤزر لديبلوماسية القيادة، وعلى أنه الحصاد المثمر لما قدمه الشعب الفلسطيني من تضحيات بالروح والدم ومن آلام ودموع وتهجير، وأنه خطوة سريعة لإقامة دولة العدالة والثورة والتحرير وبناء الوطن، وافق الاتفاق وما تلاه من ملاحق على بعض مظاهر الدولة كرفع الأعلام وإصدار طوابع البريد وما إلى ذلك، ولكن دون جوهرها السيادي الذي يشمل المواضيع الخمسة التي تم ترحيلها للبحث لاحقا، وهي مواضيع القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود و المياه.
أمام سلوك الحكومة الجديدة وما تعلنه وتفعله، تبدي الدولة العميقة في (إسرائيل) تبرما وضيقا في ظاهر الأمر من السلوك غير المنضبط وغير المتوافق مع الصورة التي تحاول الظهور بها أمام العالم، ومن عدم احترام بعض الوزراء للالتزامات الدولية الحكومات المتعاقبة، ولكن رؤيا الدولة العميقة استراتيجيا تتطابق مع السلوك الذي تزعم تبرمها منه، وترى ضرورة حسم الملفات الخمسة العالقة.
ترى الدولة العميقة ان القدس عاصمة أبدية (لإسرائيل)، وترى أن المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة مقامان في حيز يهودي خالص وبشكل غاصب حيث هناك يجب أن يقام الهيكل ويهدم المسجدان، وفي هذا السياق تتطابق وجهات نظر الإسرائيلي اليهودي العلماني مع الإسرائيلي اليهودي المتدين التلمودي المتطرف، وهذا سيكون من أول الملفات التي تريد هذه الحكومة حسمها وتحمل مسؤولية تنفيذ ذلك، فيما الدولة العميقة ستكون سعيدة بنتائجها، ولعل البداية قد تكون باشتباك مع الأوقاف الأردنية الراعية للمسجد
لم يتجاوز عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية المئة ألف مستوطن ما بين عام 1967 حتى عام 1994، هؤلاء أصبح عددهم اليوم (بعد إقامة السلطة الفلسطينية) يقارب المليون، ومستوطناتهم الكبرى قد أصبحت مدنا معمورة تحتوي على المشاريع الزراعية الضخمة والاستثمارات الصناعية، وفي مجالات التكنولوجيا الحديثة كما تحوي الفنادق والجامعات والنوادي الرياضية.... ترى الدولة العميقة أن هناك مستوطنات صغيرة لا قيمة لها، وأنها أقيمت لتزال في حال التفاوض، أما المستوطنات الكبرى فلا تسمح الدولة بالتخلي عنها لأسباب عسكرية كالتي تقع في محافظات طولكرم وقلقيلية وسلفيت أو بجوار القدس، كذلك الأغوار التي ترى فيها العقيدة العسكرية (الإسرائيلية) مصيدة الدبابات والتي لا يمكن التخلي عنها مهما كان الظرف.
يزداد أعداد الفلسطينيين في مناطق 1948 بنسب تفوق بكثير الازدياد في أعداد اليهود، ومنذ أواخر ثمانينات القرن الماضي أخذ منظرو الاستراتيجية في (إسرائيل) يتحدثون عن قنبلة ديموغرافية ستفجرهم من الداخل، وتقول إحصاءاتهم أن عدد الفلسطينيين سيصبح مساويا لعدد اليهود في غضون فترة زمنية محدودة، فكيف يمكن القبول بزيادة أعدادهم عن طريق عودة اللاجئين، أو حتى بعض منهم لدى الدولة التي تفكر بالتخلص بما لديها وفي سعيها للعمل على يهودية الدولة.
لم تعلن (إسرائيل) عند حدود تعترف بها تفصلها عن جيرانها، وهي تراها حدودا مؤقته مرشحة للتوسع، وفي مفاوضاتها مع الفلسطينيين في مرحلة ما بعد أوسلو محادثات واي ريفر وكامب دافيد لم تكن تقبل بأن يرابط على حدودها أحد غيرها، فهي لا تثق في هذا المجال إلا في نفسها لدرجة أنها لم تقبل أن تناقش فكرة أن يرابط حتى الجيش الأميركي على هذه الحدود، مسألة الحدود مسألة محسومة لا تقبل حتى النقاش أو التفاوض.
حولت(إسرائيل) مياه بحيرة طبريا ونهر الأردن إلى صحراء النقب منذ أكثر من ستة عقود ولا تزال، ولم تسمح لمجموع الدول العربية ببناء سد على نهر اليرموك وهو المشروع المعطل منذ عام 1964 حتى اليوم، وهي ترى أن الماء مرتبط بالزراعة وأن الزراعة هي نقيض المشروع الصهيوني وأساس صمود وبقاء الفلسطيني الذي لا زال حتى اليوم محروما من الحصول على ترخيص حفر بئر، وأية حلول لمشكلة المياه يجب أن تكون من غير حسابها.
هكذا ينسجم سلوك الحكومة مع استراتيجيات الدولة العميقة.