بقلم / وسام اسماعيل
لم يكن التضامن الدولي المطلق وغير المشروط للكيان الإسرائيلي بعد طوفان الأقصى إلا تطبيقاً عملياً لتوجّهات الدولة العميقة الأميركية، حيث توافق الغرب على تبرير السلوك الوحشي للكيان من خلال اعتباره ردّ فعل طبيعياً على ما يهدّد أمنه ومجتمعه.
لم يكن انهيار الاتحاد السوفياتي أحد أصعب التعقيدات التي واجهت الدولة العميقة في الولايات المتحدة حيث نجحت سريعاً في تعويض انتهاء صلاحية سرديتها، التي ساعدت طوال فترة الحرب الباردة على ضمان انتظام المجتمع الأميركي خلف قيادته بحجة مواجهة التهديد العقائدي الذي شكّله الاتحاد السوفياتي، بسردية أخرى قوامها تهديدات جديدة مُفترضة قد تترك، بحسب زعمها، تأثيراً عميقاً على أمن ومصالح الولايات المتحدة الأميركية ومنظومتها القيمية.
فقد كان من السهل عليها التسويق لخطر الإرهاب وخطر من اعتبرتهم دول محور الشر، حيث اعتبرت هذه الدول بمثابة تهديد حقيقي لثقافة مجتمعها ورؤيتها للنظام العالمي.
فمنذ تسعينيات القرن الماضي، عمدت الدولة العميقة إلى دفع الولايات المتحدة نحو تبنّي سياسات خارجية هدفها تعزيز مفهومها للديمقراطية وتكريس السلام، المتعارف عليه بالسلام الأميركي الذي كان مقترناً بالقوة والهيمنة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى تركيزها على مواجهة الأعداء مع إغفالها لأهمية توسيع مروحة الأصدقاء أو الحلفاء.
وعليه، كان من الملاحظ بشدة أن المشروع القيمي للدولة العميقة قد نبذ مفاهيم العالمية والقانون الدولي التي مثّلتها الأمم المتحدة، بالإضافة إلى إهماله لسياسات الانفتاح على الخصوم بما أمكن وصفه بعدوانية تستهدف القوة الأحادية الأميركية الحفاظ عليها تحت ستار المثالية واعتناق مبادئ الحرية والعدالة والإنسانية.
ولذلك، لم يكن من الممكن قراءة التوجّه لاحتلال العراق على أنه منفصل عن الدفع للوصول إلى اتفاقيات السلام بين الدول العربية والسلطة الفلسطينية من ناحية والكيان الإسرائيلي من ناحية أخرى، كما أنه لم يكن من الممكن تفسير محاولة التوأمة بين القيم الأميركية والقيم الإنسانية العالمية إلا في الإطار ذاته المتمثّل في تبنّي الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأميركية لفلسفة استبدادية لا تتقبّل القيم المجتمعية والفلسفية الأخرى.
فمن خلال استغلال موقعها في تلك المرحلة كقوة أحادية يتجلى طموحها في إدارة النظام العالمي وترتيبه بحسب توجّهاتها بما يضمن أمنها وازدهارها، مستفيدة من انهيار الاتحاد السوفياتي وانكفاء الصين، بالإضافة إلى تحاشي مواجهتها من قبل بعض القوى ذات الحجم الإقليمي، عمدت الولايات المتحدة إلى جعل توجّهاتها وقيمها أطراً معيارية يفرض تقدّم البشرية ضرورة الالتزام بها، بحيث أنها لم تتوانَ عن التسويق لفكرة أن مفهوم الحضارة العالمية يرتكز على أيديولوجيتها، وأن مبادئ القانون الدولي تقف إلى جانب الساسة الأميركيين الذين كلّفهم الله بإدارة العالم.
وعليه، كان من السهل عليها أن تبرّر شرعية احتلالها للعراق وأفغانستان، بالإضافة إلى اعتبارها توسيع نفوذها نحو الحدود الروسية وفي بحر الصين حقاً مشروعاً تبرّره سرديتها سالفة الذكر. وبطبيعة الحال لم تكن رؤيتها لقوى المقاومة والكيان الإسرائيلي مختلفة عمّا سبق، حيث أنها كانت تفترض لهذا الإشكالية حلولاً تناسب مصالحها، وقد نجحت في الفترة الماضية في تدجين الوعي الجماعي العالمي وفق سردية عدم شرعية قوى المقاومة، وتظهير الكيان الإسرائيلي على أنه ضحية لسلوك إرهابي شبيه بسلوكيات القرون الوسطى.
في هذا الإطار، لم يكن التضامن الدولي المطلق وغير المشروط للكيان الإسرائيلي بعد طوفان الأقصى إلا تطبيقاً عملياً لتوجّهات الدولة العميقة الأميركية، حيث توافق الغرب على تبرير السلوك الوحشي للكيان من خلال اعتباره ردّ فعل طبيعياً على ما يهدّد أمنه ومجتمعه.
وللتدليل أكثر على مدى نجاح الدولة العميقة الأميركية في تسويقها لسرديتها وفي فرضها على العالم، يمكن بسهولة الإشارة إلى الصمت العربي الذي وجد نفسه غير محرج في تخلّيه عن القضية الفلسطينية والإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني في غزة، وذلك من خلال تسليمه بالنظرية الأميركية التي تعتبر الفعل المقاوم عملاً كارثياً وعبثياً لا جدوى منه.
ففي إطار توجّهات الدولة العميقة الأميركية، برز بشكل واضح إصرارها على هزيمة المقاومة في غزة والقضاء على حركة المقاومة الإسلامية بالتوازي مع الجهود لتفكيك محور المقاومة ومحاصرة أقطابه، حيث أن ما تشهده غزة اليوم لا ينفصل عن المسار الأميركي لمحاصرة الجمهورية الإسلامية وإسقاط الدولة في سوريا ومحاصرة المقاومة في لبنان، من دون أن نفصل كل ذلك عن الحرب التي تُشنّ على اليمن منذ عام 2015.
وإذا حاولنا أن نقيّم مدى نجاحها في تحقيق هذه الأهداف، فمن السهل أن نستنتج أنها ضمنت في الأيام الأولى للمعركة التزاماً واسعاً بتوجّهاتها بما يمكن أن يُقرأ على أنه تأكيد تماسك مشروعها العالمي، حيث أن الدعم الدولي للعدوان على غزة قد تقاطع مع ضغوط دولية لمنع تنفيذ رؤية وحدة الساحات.
غير أن معطيات الميدان قد فرضت رأياً مختلفاً، حيث إن إصرار المحور على الإسناد في ظل نجاح حركة المقاومة والفصائل في غزة على إغراق "جيش" الكيان في حرب عبثية لم ينجح خلالها في تحقيق حسم ميداني سريع قد ساعدت في تظهير صورة مختلفة لحقيقة التوجّهات والقيم الأميركية.
فمن خلال استناد الأصوات المعارضة في الداخل الأميركي والغربي على مقارنة بسيطة بين اللغتين المختلفتين اللتين تبنّتهما الإدارة الأميركية تجاه الحرب في أوكرانيا والعدوان على الغزة، من حيث التركيز على الجانب الإنساني في أوكرانيا من خلال تسليط الضوء على معاناة المدنيين الأوكرانيين وضرورة تحمُّل روسيا مسؤولية كامل الأحداث في تلك المنطقة، بما أدى إلى الدفع لإصدار مذكّرة توقيف بحقّ بوتين من قبل المحكمة الجنائية الدولية، قد قابله في غزة إصرار على تبرير جرائم الإبادة، بالإضافة إلى التشكيك في إمكانية ارتكاب "جيش" الكيان لما يمكن اعتباره خرقاً لقواعد القانون الدولي الإنساني.
وإذا أضفنا إلى ذلك إصرار الدولة العميقة الأميركية على مدّ الكيان بما يحتاجه من سلاح وذخائر مع علمها باستخدامه للقوة المفرطة وغير المتناسبة ومن دون أيّ ضوابط تحيّد أو تحمي المدنيين، بالإضافة إلى إصرارها على إجهاض قرارات محكمة العدل الدولية والتهديد بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية بسبب إصدارها مذكّرات توقيف بحقّ نتنياهو وغالنت، حيث كانت ترى ضرورة أن تصدر فقط بحقّ قادة المقاومة الإسلامية حماس، يمكن من خلال كل ذلك أن نلاحظ عمق الأزمة التي تواجهها لناحية إصرارها على التسويق لمسار تثبّت الداخل الأميركي والرأي العام العالمي من معارضته للمبادئ والقيم العالمية التي أرساها ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي حيث أنها باتت، أي الدولة العميقة، ملزمة بأن تتخلّى عن قناع العفة والأخلاق وادعاء مهمتها بحفظ السلم والأمن الدوليّين في سبيل تحقيق مصالح واستراتيجيات خاصة.
وعليه، يمكن القول من خلال ما سبق أن طوفان الأقصى قد زعزع أركان الدولة العميقة التي استطاعت من خلالها طوال فترة ما بعد الحرب الباردة أن تنفّذ مخططاتها واستراتيجياتها، وجعلتها ملزمة بأن تُظهر الولايات المتحدة كدولة مارقة لا تختلف بشيء عن عنصرية واستبدادية النظام النازي الذي حكم ألمانيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.