بقلم / وليد دقة
أتت ميلاد إلى العالم في الثالث من شباط عام 2020، العام الذي مثّل درساً للبشرية أمام الكائنات الصغيرة، غير المرئية تلك التي تنقّلت بيننا ببطء حاصدة أرواح من نحب. في ذلك العام تعرّف سكان الكوكب إلى الحجر المترف؛ حيث انزووا في بيوتهم الدافئة، تناولوا ما يحلو لهم، وكان «سجنهم الاختياري» الكائن في السجن البشري الكبير أشبه برحلة إلى النفس. بموازاة عالمنا هذا ظل الأسرى الفلسطينيون في سجونهم القاتلة، يقاسون العذابات التي لا تنتهي، ويدورون في دوائرهم المفرغة، يقلبون جراحهم المنسية وحيدين.
في ذلك العام لم نرغب إلا في أن تصيبنا عدوى الحب، بوصول كائن صغير وحيد يحملها في جيناته وكينونيته الأوليّة، كائن وحيد فقط في هذا العالم البائس. وكان هذا الكائن هو ميلاد. تلك الصغيرة التي يشبه وجهها الرسوم الكرتونية الضاحكة في قصص الأطفال. لم تكن ميلاد انتصار الأسير وليد دقة (60 عاماً) وزوجته سناء (50 عاماً) فحسب، كانت انتصارنا جميعاً. انتصار أولئك المظلومين والمسحوقين تحت رحى أحجار الحروب والاحتلالات.
لم يتّسع السجن، ولا العالم حتى، لفرحة وليد وسناء. فالعذاب انتهى بهذا الميلاد، الذي حاربته أجهزة أمن العدو قبل أن يصبح نطفة تهرب من السجن إلى رحم والدتها، وتتكور فيه جنيناً، له ملف أمني في أروقة المحاكم الإسرائيلية. بعد شهرين سيصير عمر الطفلة ثلاث سنوات. في عالمنا، الموازي لعالم الأسرى، يجهد الآباء للاحتفال بميلاد أطفالهم، أعياد ميلاد فارهة، بالونات وساحر وعرض كلاب وأفاعٍ وقرود، ألعاب للأطفال أغانٍ وصراخ أطفال، وطعام يذهب الكثير مما يتبقى منه إلى سلال القمامة. لم يكن هذا الترف لدى وليد وسناء، فالأب لم يرَ طفلته طوال هذه الأعوام الثلاثة إلا من خلف زجاج السجن، في زيارتين تستمر كل منهما 45 دقيقة كل شهر.
لم يتسنَّ لوليد رؤية أول سن برز في فك طفلته، لم يكن لديه ترف أولئك الآباء الذين قد يمتنعون عن تهدئة أطفالهم الباكين في ساعات الليل، غير مقدّرين أي نعمة هم فيها. لم يخترع أغنية تنوّم طفلته، لم يرَ خطوتها الأولى، لم يأخذها إلى الحضانة، ولم يحملها حتى بين ذراعيه ويتأمل وجهها الساحر، ذي الخدين الورديين وعينيها الواسعتين مثل عيني غزال. قبل بضعة أشهر فقط سمحت له المحكمة بأن يحضن جسدها ويراها أمامه بلا فاصل زجاجي. كانت الطفلة مصدومة، وبدأت في الصراخ والبكاء، فكيف لطفلٍ أن يحضن والده بحضور كل أولئك السجانين الأشرار؟
بعد ثلاثة أشهر كان من المفترض أن ينتهي آخر عذابٍ لوليد، كان سيتحرر من سجنه من دون منّة من أحد، خصوصاً أولئك الذين ابتُلي بهم الشعب الفلسطيني، ووصفوه ورفاقه بـ«جنرالات الصبر»، تغطية على عجزهم في تحريره من سجنه الذي بلغ 37 عاماً. لكن الاحتلال أضاف إلى حكمه الأصلي عامين إضافيين، بتهمة تهريب هواتف للأسرى. مع ذلك، تحمّلت سناء ووليد هذا القهر، وانتظرا طويلاً أملاً في أن يكون لهذا الظلم نهاية. نهاية يرى أخيراً فيها ابنته وزوجته ويعيش بينهما في بيت دافئ في مسقط رأسه، مدينة باقة الغربية في الأراضي المحتلة عام 1948. وفجأة نُقل وليد قبل أيام من سجنه إلى المستشفى إثر هبوط حاد في الدم، هناك أجروا له الفحوصات ليبلغوه بأقسى ما قد مر عليه في عمر الأسر الطويل: الإصابة بسرطان الدم!
كيف لكتفي إنسان، كبر وشاب في السجن أن تحملا هذا الجبل العملاق؟ تقول سناء إن «وجع الحياة لا ينتهي، والصبر لا ينتهي أيضاً كما اليقين بالحرية»، وهي تخبر أحبابه الكثر بأن زوجها الأسير الذي عانى مثل رفاقه من الإهمال الطبي الممنهج من قبل إدارة سجون الاحتلال، أصيب بمرض «لوكيميا-ALM» (سرطان الدم)، وأن «العلاج الكيماوي سيبدأ بشكل فوري. كنا ننتظر تحرره بعد ثلاثة أشهر، بعد 37 سنة من الأسر، لولا الإمعان في الظلم وإضافة سنتين على محكوميته. لكن ثقتنا بصمود أبي ميلاد ونجاته وخروجه للحرية في أسرع وقت لا تتزعزع. كونوا مع وليد بصلواتكم وأمنياتكم».
ذات يوم سألت وليد في مقابلة لـ«الأخبار» كم مرة يئست؟ فأجابني بأن «اليأس كلمة كبيرة لا أحبها وأخشى استعمالها. اليأس رفاهيّة لا يُمكن لأحد في مثل حالي أن يصل إليها. هذا لا ينفي أنه في بعض اللحظات لم أبكِ من شدة الكوارث التي حلّت بشعبنا وأمتنا العربية، وجسدت في مشهد طفل متفحم في ملجأ العامرية في بغداد، أو طفلة تُنتشل من تحت الأنقاض في الضاحية الجنوبية بعد القصف الإسرائيلي الهمجي، أو لمشهد المجازر في غزة أو القتل بدم بارد على الحواجز في الضفة. لكنها لحظة وسرعان ما أعود إلى توازني، وبالتالي أنا لا أُفكر في الأسر كما شاؤوا، بل كتجربة وموقع وزاوية لمشاهدة مجمل الحالة العربية والنضالية».
لكنّ المرض كبير يا وليد، وحين يواجه الإنسان وحشاً حقيراً خفياً مثل هذا من حقه أن تكون له رفاهية اليأس، وأن يقول كفى، وأنت لست استثناء منّا. ولكنك وليد، انتصارنا الكبير، وجهنا الذي نتأمله وهو يكبر أمامنا في المرآة، عاجزين أمام المد الجارف لقدرتك على الحب والبقاء إنساناً رغم كل تلك الجدران الرمادية العالية التي تحيط بك.
ذات يوم قلت لي إننا «نشتاق في الحقيقة إلى الذاكرة التي تحملها الأماكن، وعودتنا إليها هي عودة إلى الذاكرة، ولكنني أعي أن هذه الأماكن تغيّرت بعد مرور السنوات الطويلة، ولم تعد تحمل الذاكرة نفسها... أنا أريد العودة إلى فلسطين المستقبل التي لا بد أن تتطابق فيها الهوية الوطنية الجامعة مع جغرافيا الوطن الكامل»، وقلت لي أيضاً: «أنا توّاق إلى المستقبل، البيت الذي سأعمره، فهناك سأعيد ترتيب الذاكرة في المكان الذي سأحدده. وربما كما أذكر لرفاقي في الأسر أحياناً سأعدّ في هذا البيت الذي سأعمره بعيداً عن ضجيج المدينة وصخبها دلّة القهوة، ومن حولي ستدور في الباحة أربع دجاجات بلديات، وعنزتان شاميتان، وكلب أخرس كي لا يجرح السكينة بنباحه».
إنك لا تستحق كل هذا الألم يا وليد. ذات يوم قريب، نريده أن يكون قريباً، ستفعل ما قلته لي: «أول شيء أرغب في فعله هو الذهاب إلى البحر. أنا مشتاق إلى البحر، وأريد أن أجلس قبالته وحدي في شاطئ ناءٍ بعيداً عن الناس، وأعترف له بكل شيء. سأزيح عن كاهلي كل الأقفال والقيود التي تراكمت على جسدي. سأحكي له عما حلّ بي على مدى هذه العقود الطويلة. سأصرخ وأبكي وألهو برمله مثل طفل، فالبحر هو الوحيد الذي يمكن أن أضعف أمامه وأن أنزع ملابسي دون خجل منه. أمام البحر سأخلع عني وجع السنين لعلّني أستعيد... توازني».
ستفعل ذلك، فأنت انتصارنا على كل العجز من حولنا، ستجلس أمام البحر، وستكون سناء وميلاد برفقتك، ستلهو تلك الطفلة معك، وستجمعان الكثير من الصدف، ستساعدها لتبني قلعة من رمل، وتحملها بين ذراعيك إلى داخل البحر. لا لن تنتهي قصتك بألم، ولا قهر. ستكون هناك نهاية. نهاية سعيدة فقط تضع حداً لهذا الألم.
المصدر : صحيفة الأخبار اللبنانية