بقلم رفعت البدوي
غادر الرئيس اللبناني ميشال عون القصر الرئاسي قبل يوم واحد من انتهاء ولايته، مسلماً العهدة الرئاسية إلى ضجيج فراغ يملأ سدة الرئاسة الأولى، في ظل اشتباك سياسي وانقسام حاد بين اللبنانيين، وأزمات معيشية واقتصادية ومالية وصحية مستفحلة.
ومع هذا المشهد القاتم الذي يشهده لبنان، عجز المسؤولون عن الاتفاق على تشكيل حكومة شراكة وطنية لإدارة شؤون البلاد والعباد، وبالتالي عن التقاط اللحظة التاريخية، لوضع خطة لإدارة ثروة لبنان النفطية، الكامنة في المنطقة الاقتصادية البحرية الخالصة، وخصوصاً بعد التوقيع على اتفاق الترسيم وانتزاع حق لبنان في التنقيب واستخراج واستثمار ثروته النفطية، بعد حصوله على ضمانة أميركية، وإذعان العدو الإسرائيلي وباعتراف قادته.
إذاً انتهت رحلة 16 عاماً من تفاوض لبنان مع الوسطاء الأميركيين بتوقيع اتفاق الترسيم، وما كان ينبغي للمفاوضات مع الأميركي ومن ثم غير المباشرة مع العدو الصهيوني، أن تستغرق كل هذه المدة لولا النكد السياسي الدائم وسوء الأداء والإدارة اللبنانية لهذا الملف الحساس.
فكيف وما العوامل التي أدت إلى قبول أميركي وإذعان إسرائيلي بتوقيع اتفاق الترسيم؟
بداية انتهز الأميركي بالاشتراك مع العدو الصهيوني حالة الوهن السياسي والانهيار الاقتصادي وسوء الإدارة اللبنانية، وأوغلوا في ممارسة الحصار والضغط على لبنان، وبصيغة الإملاءات عبر الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين، للقبول بترسيم أميركي إسرائيلي مجحف بحق لبنان وحدوده البحرية، وبحق ثروته المشروعة الكامنة في بحر لبنان.
تركز الخلاف حول الخط 29، وتحول إلى مادة خلافية ولاقى تأييداً من أوساط لبنانية عديدة، بعدما تبنت قيادة الجيش اللبناني الخط 29، وإعداد لبنان لمشروع تعديل المرسوم رقم 6433 لاعتماد الخط 29 حدود لبنان البحرية.
لكن رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون لم يوقع هذا المرسوم، وبقي موقف لبنان الرسمي المعتمد في الأمم المتحدة هو الخط 23، بعدما أعلنت قيادة الجيش اللبناني إنهاء المهمة التقنية والوقوف خلف قرار القيادة ألسياسية، تبعه إعلان رئيس الجمهورية الذي أفاد بأن الخط 29 هو خط تفاوضي، وأن حدود لبنان هو الخط 23 وذلك بعد تعرضه لضغط أميركي مباشر.
على أثر بداية حرب روسيا وأوكرانيا، برزت أزمة الطاقة في أوروبا جراء قطع الإمدادات الروسية، وإلزام روسيا المشترين الدفع بالروبل الروسي، فتوجه الاهتمام نحو آبار الغاز الموجودة في البحر المتوسط كبديل عن الغاز الروسي، حينها وصلت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إلى مصر، وعقدت اتفاقاً مع مصر وإسرائيل لنقل الغاز المستخرج من المنطقة الاقتصادية التابعة لفلسطين المحتلة، إلى عسقلان ثم إلى العريش في مصر وتسييله وشحنه إلى أوروبا.
هنا مورس التعنت والابتزاز الأميركي الإسرائيلي الرافض لحقوق لبنان، واستُقدِمت منصة «إنرجيان باور» العائمة لاستخراج الغاز من حقل كاريش المتنازع عليه ومن دون الاتفاق مع لبنان، وأعلنت وزيرة الطاقة الإسرائيلية كارين حرار عن بدء استخراج الغاز من حقل كاريش في شهر أيلول الماضي.
بدأت الأنظار تترقب موقف حزب الله، نظراً لحساسية الوضع وتبعاً لتعلق الملف بالعدو الإسرائيلي، لكن الحزب أعلن عن وقوفه خلف ما تقرره الدولة اللبنانية، وأن قيادة الحزب سوف تكون داعمة لقرارها من دون التدخل في عملية التفاوض أو ترسيم الخطوط البحرية، لأن الحزب لم يكن مهتماً بترسيم الخطوط البحرية مع العدو الصهيوني، لأسباب عقائدية ولأنه لا يعترف أصلاً بكيان غاصب لفلسطين.
أمام هذا التعنت والإجحاف الأميركي الإسرائيلي بحق لبنان، تدخل حزب الله فعلياً مترجماً ذلك بإطلاق ثلاث مسيرات بلغت سماء حقل كاريش المتنازع عليه، تصدت لها بوارج إسرائيلية وحصل اشتباك عسكري أُسقطت المسيرات التابعة لحزب الله، بيد أن حدث المسيرات كان بمنزلة رسالة تحذيرية جدية من الحزب موجهة إلى جميع الأطراف، مفادها أن حزب الله قادر على تعطيل استخراج النفط والغاز ليس من حقل كاريش فقط، بل من كل حقول غاز البحر الفلسطيني، وخصوصاً بعد إطلاق معادلة ما بعد بعد كاريش، ما يعني كل المنصات العاملة في بحر فلسطين.
إزاء تحرك مسيرات حزب الله، أوقفت إسرائيل العمل في كاريش، ودخلت المفاوضات في مرحلة الإذعان الإسرائيلي الأميركي لطلبات لبنان والتي تتلخص بالتمسك بالخط 23، وانتزاع حق لبنان في استخراج الغاز من حقل محتمل في البلوك رقم 9 تمتد مكامنه في الأعماق جنوب الخط 23، لكن العدو الإسرائيلي ولأسباب محض انتخابية داخلية، حاول ادعاء تصميمه على استخراج الغاز من حقل كاريش، والدفاع عنه بكل الوسائل، بيد أن حزب الله كان له كلام آخر، فقد أعلن الاستنفار العام بين صفوف مقاتليه استعداداً للحرب، وقام بعملية بحرية سرية تاركاً أثراً واضحاً تأكيداً لجدية حزب الله بدخوله الحرب، وضرب كل المنصات الإسرائيلية العاملة في بحر فلسطين، ما قد يُسفر عن تعطل إنتاج الغاز في المنطقة كلها.
إدارة البيت الأبيض في واشنطن ضغطت بكل ثقلها على حكومة يائير لابيد لتوقيع اتفاق الترسيم مع لبنان، حتى وإن حصل وفق شروط لبنان، تجنباً لحرب حتمية مع حزب الله.
رئيس وزراء الكيان الصهيوني يائير لابيد أذعن لتهديد حزب الله وأبلغ وزراءه ضرورة توقيع اتفاق مع لبنان خوفاً من اندلاع حرب مع حزب الله.
فريديريك هوف، الوسيط الأميركي الأول الذي ضغط على لبنان لقبول ما سمي خط هوف المجحف بحق لبنان، قال لمجلة «بلومبرغ» إن اتفاق الترسيم جرى وفق خط بحري رسمه لبنان الرسمي وتبنّاه، وإن حزب الله وحده من بين كل الأطراف السياسية اللبنانية، كانت عينه على هذا الملف منذ بدء التفاوض ونجح في تحصيل المطالب اللبنانية.
إذاً انتهت رحلة الترسيم بإذعان إسرائيلي واضح للمطالب اللبنانية، وبفضل معادلة الردع التي أرستها المقاومة اللبنانية، حقق لبنان إنجازاً تاريخياً في تحرير ثروته من سطوة العدو الإسرائيلي وبرفع الفيتو الأميركي الذي كان مفروضاً على شركات التنقيب العالمية والسماح لها بالعمل في لبنان، من دون إراقة نقطة دم واحدة، ومن دون أي اتفاق ولا ضمانات أمنية، ولا علم إسرائيلي يرفرف فوق سماء لبنان، ونستطيع القول إنه إنجاز تحرير مهم يضاف إلى الإنجازات الوطنية للمقاومة اللبنانية.
الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ألقى كلمة مطوّلة تحدّث فيها بإسهابٍ عن رحلة الإنجاز التاريخي، مفنّداً المراحل التي سبقت الوصول للاتفاق الذي تحقق، وصولاً إلى نقطة اللا عودة وإذعان إسرائيل للمطالب اللبنانية، في لحظة تاريخية معتبراً الاتفاق الذي أُنجز بحد ذاته تاريخياً، وكبيراً جداً ويستحقّ التوقّف عنده.
مما قاله السيد: إنّ الموقف اللبناني الموحد، وتحرك المقاومةً وضع حكومة يائير لابيد في وضع صعب، ولو أصر العدوّ على ما كان يخطّط له، لكنا حكماً ذهبنا إلى حرب مع العدو الإسرائيلي وربّما إلى حرب إقليمية، وأضاف: إنّه من المهمّ التّذكير بأنّ لبنان لم يقدّم أيّ التزامات أمنيّة أو غيرها، وإن الاتفاق لا يتضمن أي ترتيبات أو تدابير أمنية من الطرفين.