بقلم: حسن لافي
أثبتت تجربة الاحتلال الإسرائيلي مع انتفاضة الحجارة عام 1987 أنّ استمرار "إسرائيل" بحكم أكثر من 4 ملايين فلسطيني في الضفة وغزة، وباحتكاك يومي مباشر على مستوى الأمن والاحتياجات المعيشية، مهمة شبه مستحيلة، ستؤدي على المستوى الاستراتيجي إلى المزيد من التكاليف والأعباء الإسرائيلية اليومية.
وعلى المستوى الاستراتيجي، ستخلق الدولة الواحدة (دولة الأبرتهايد) كنتاج طبيعي للاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي اعتبرته "إسرائيل" خطراً وجودياً عليها كـ"دولة" يهودية تسوّق نفسها أنها ديمقراطية.
بدأت دوائر السياسة والأمن الإسرائيلية التفكير في تقليل الاحتكاك مع المجموعات السكانية الفلسطينية إلى أقصى درجة ممكنة، سواء على مستوى الضبط الأمني لجموع الشعب الفلسطيني أو على مستوى الاحتياجات الحياتية والخدمات الحكومية.
من هنا، كان الهدف الرئيس لـ"إسرائيل" وراء السماح بقيام سلطة حكم ذاتي فلسطينية تحمل على عاتقها تلك الأعباء، الأمر الذي يصبّ في مصلحة إسرائيلية كبرى، إذ قال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين: "لم نأتِ إلى هنا لننشغل بشؤون الفلسطينيين".
رفعت عملية التسوية بين منظمة التحرير الفلسطينية و"إسرائيل" شعار "الأرض مقابل السلام"، ولكن كانت "إسرائيل" من اللحظة الأولى تسعى إلى حل معضلتها الأمنية الناتجة من احتلالها الشعب الفلسطيني المتشبّث بأرضه من دون أن تدفع تكلفة احتلالها.
من هنا برز مفهوم التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية الناشئة عن اتفاق أوسلو و"إسرائيل". ورغم أن نص الاتفاق يتحدث عن تنسيق أمني من كلا الطرفين، فإنّ "إسرائيل"، بكل ما تملكه من أوراق قوة، جعلت التنسيق الأمني باتجاه واحد، وألزمت أجهزة أمن السلطة الفلسطينية به.
وتحت ذريعة عدم عرقلة الانسحابات الإسرائيلية من مزيد من الأرض الفلسطينية المحتلة، حاول الرئيس ياسر عرفات ربط التنسيق الأمني بمدى انسحاب "إسرائيل" من الأرض الفلسطينية، ومدى جديتها في التقدم بمسيرة التسوية السلمية، الأمر الذي اتّضح في محطتين رئيسيتين:
الأولى، هبة النفق عام 1996، التي سجلت أول مواجهة عسكرية بين قوات الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي، والتي ترجع أسبابها الحقيقية إلى أنَّ ممارسات حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرف برئاسة بنيامين نتنياهو في ذاك الوقت رفضت تنفيذ الاتفاقات المبرمة بين "إسرائيل" ومنظمة التحرير الفلسطينية، وخصوصاً قضية الانسحاب من مدينة الخليل، وقيامها بالتسويف والمماطلة في كل القضايا المتصلة بإنهاء استحقاق المرحلة الانتقالية.
الثانية، انطلاق انتفاضة الأقصى عام 2000، التي أعلنت قناعة الشهيد ياسر عرفات بأنّ "إسرائيل" لا يمكن أن تسمح بقيام دولة فلسطينية على حدود عام 1967. ومع انخراط حركة فتح بالمواجهة مع الاحتلال على مدار سنوات الانتفاضة، رغم أنها تعتبر العمود الفقري للأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية، اعتبرت الانتفاضة عبارة عن طلقة الرحمة على مبدأ التنسيق الأمني السيئ الصيت الوطني.
من خلال ما سبق، يتضح أنَّ مبدأ التنسيق الأمني مع الاحتلال (نشأته وتكوينه)، بكل ما يحمله من مثالب على الصعيد الوطني، كان مرتبطاً بمشروع سياسي راهن البعض على أنه سيؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967.
ولكن مع اغتيال الرئيس ياسر عرفات عام 2004، تمت إعادة فتح الباب الفلسطيني واسعاً لتطبيق خطة خارطة الطريق التي تم تجميد تنفيذها فلسطينياً منذ إعلانها عام 2002، والتي تنصّ مقدمتها على أنه "لن يتم تحقيق الحل القائم على أساس دولتين للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني إلا من خلال إنهاء العنف والإرهاب، وعندما يصبح لدى الشعب الفلسطيني قيادة تتصرف بحسم ضد الإرهاب"، وبدأت السلطة الفلسطينية بتنفيذ مطالب خارطة الطريق التي تم من خلالها وسم المقاومة الفلسطينية بالإرهاب والعنف، وبدأت أجهزة السلطة الفلسطينية المعاد بناؤها بمساعدات أوروبية وأميركية بتنفيذ عمليات مستمرة ومحددة وفاعلة تهدف إلى مواجهة كلّ هؤلاء الذين لهم علاقة بالمقاومة، وتقويض القدرات والبنى التحتية للمقاومة، وتم استئناف التنسيق الأمني بشكل سريع بين أجهزة الأمن الفلسطينية المعاد بناؤها وتدريبها ونظرائها في "جيش" الاحتلال الإسرائيلي.
ومما زاد الأمر سوءاً وتعقيداً هو حدوث الانقسام الفلسطيني الداخلي، الذي بات ذريعة تتستر من ورائها المخططات الأميركية الإسرائيلية بقيادة الضابط الأميركي كيث دايتون، الذي تولى دور المنسق الأمني بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وقد عيّنته الإدارة الأميركية في هذا المنصب عام 2005 لطمس معالم العقيدة الأمنية الفلسطينية التي ما زالت تتبنى مواجهة الاحتلال كحال تحرر وطني، وكان من أهم أيقوناتها الشهيد الضابط في الأمن الوطني الفلسطيني يوسف أحمد ريحان (أبو جندل)، وأحد أبطال معركة جنين 2002، وتحويل نظرة العقيدة الأمنية الفلسطينية إلى المقاومة في الضفة الغربية على أنها "إرهاب" يزعزع استقرار السلطة في الضفة الغربية. لذا، يجب القضاء عليها كشرط لاستكمال المرتكز السياسي في خارطة الطريق، وهو إقامة دولة فلسطينية من خلال التفاوض مع الإسرائيلي، والذي سرعان ما تنصَّلت "دولة" الاحتلال منه.
ومنذ فشل مبادرة وزير الخارجية الأميركية جون كيري عام 2014، تعترف "إسرائيل" صراحةً بأن حل الدولتين لا يمكن تطبيقه نهائياً، وترفض مجرد الحديث عنه، كما أشار إلى ذلك حجم المعارضة السياسية الإسرائيلية الواسع لخطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد في الأمم المتحدة، لمجرد ذكر حل الدولتين، رغم تأكيده أنه غير قابل للتنفيذ.
إنَّ عدم تطبيق السلطة الفلسطينية قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية في آذار/مارس 2015، الداعي إلى وقف التنسيق الأمني بأشكاله كافة مع سلطة الاحتلال، في ضوء عدم التزامها الاتفاقيات الموقعة، والذي تم تأكيده مرة أخرى في 15 كانون الثاني/يناير 2018، وإيكال هذه المهمة للجنة التنفيذية للمنظمة، جراء عدم التزام سلطات الاحتلال أصلاً باتفاق أوسلو وملحقاته، ومواصلتها عمليات الاستيطان والتهويد والضم لأراضي الضفة الغربية والقدس، أظهر أنَّ التنسيق الأمني مع الاحتلال بات يرتبط بمصالح البعض المتنفذ في قيادة السلطة، والساعي لأن يحوله إلى ورقة سياسية في صراع النفوذ الداخلي على قيادة السلطة بعد مرحلة الرئيس محمود عباس.
وفي ظلِّ المتغيرات الداخلية والخارجية، وخصوصاً في ضوء معركة "سيف القدس"، وتوحيد الشعب الفلسطيني على مبدأ عدم إمكانية التعايش مع الاحتلال، الأمر الذي يتطلب من الكل الفلسطيني في كل ساحات وجوده التوحّد في مواجهة كبرى مع الاحتلال والاستيطان والتهويد ومشاريع الضم، بدأ الشعب الفلسطيني يستشعر فظاعة التنسيق الأمني مع الاحتلال وخطورته على الحالة الوطنية الفلسطينية برمتها، وأنه بات يتنافى مع أي مشروع أو فكرة وطنية، بل يعتبر جريمة وطنية كبرى، لكونه بات مرتبطاً برؤية "إسرائيل" لدور أجهزة أمن السلطة الفلسطينية كأحد عوامل الضبط الأمني الإسرائيلي على الضفة الغربية بأقل التكاليف.
هذا الأمر هو الذي يفسر انخراط قطاع واسع من أبناء حركة فتح وأبناء الأجهزة الأمنية في الحالة النضالية المقاومة وفي الكفاح المسلح ضد الاحتلال، معبرين بوضوح عن استمراريتهم بالتمسك بالعقيدة الأمنية الفلسطينية السليمة، التي تعتبر الاحتلال التهديد المركزي للشعب الفلسطيني الذي يجب حمايته من غطرسته وبطشه.
وقد عبر عن ذلك خير تعبير العميد في السلطة الفلسطينية فتحي خازم، والد الشهيدين رعد وعبد الرحمن خازم، كأيقونة فلسطينية جديدة لرفض طمس العقيدة الأمنية الفلسطينية وتحويل أجهزتها الأمنية إلى حراس أمن كيان الاحتلال، الأمر الذي تعتبره "إسرائيل" من أخطر التهديدات الأمنية التي تواجهها في الضفة الغربية.