نُقل عن مصدر فلسطيني مطلع أن الرئيس محمود عباس طلب رسميًّا من طاقم قياديّ فلسطينيّ البحث جديًا بوقف أشكال التنسيق الأمني كافة مع إسرائيل، واقتصار التنسيق فقط على الأمور الحياتيّة، وذلك ردًا على حجب إسرائيل عوائد الضرائب عن السلطة.
وكان عباس قد قال في خطابه في الجامعة العربيّة قبل أيام، إنه سيتخذ قرارًا بتحميل إسرائيل المسؤوليّة عن احتلالها في حال استمرار الوضع على ما هو عليه من دون استئناف المفاوضات. كما أكد عزمه السير في هذا الاتجاه في حال عرقلة التوجه الفلسطيني الجديد إلى مجلس الأمن، وذلك في رسالة تحذير وضغط على الإدارة الأميركيّة، حتى لا تستخدم «الفيتو» ضد القرار عند عرضه مجددًا على المجلس.
إنّ التهديد بوقف التنسيق الأمني وتحميل الاحتلال المسؤوليّة وتقديم مشروع قرار مرة أخرى إلى مجلس الأمن، هي أمور تهدف للضغط من أجل استئناف المفاوضات في إطار زمني محدد لإنهاء الاحتلال، على أن يترافق ذلك مع تجميد الاستيطان. علماً أن مشروع القرار الذي قُدّم إلى مجلس الأمن يتضمن تنازلات جوهريّة عن سقف الحقوق الوطنيّة، حتى تلك التي ينص عليها القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، فهي تشمل الدعوة إلى استئناف المفاوضات لمدة عام كامل، على أن يسبقها مؤتمر دولي يكون منصة لإطلاقها، بدل أن يكون مستمرًا وكامل الصلاحيات وتحت سقف القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.
وهناك مساعِ لنقل الملف إلى يد جامعة الدول العربيّة، التي قال أمينها العام نبيل العربي في اجتماعها الأخير إن مشروع القرار يجب أن يكون قابلاً للتنفيذ، أي أن يحظى بموافقة مجلس الأمن، خصوصاً الدول صاحبة حق «الفيتو»، بما فيها الولايات المتحدة، وذلك في اعتراض ضمني على الطريقة التي قدم بها الجانب الفلسطيني مشروع القرار.
وإذا أضفنا إلى ذلك تصريحات الرئيس الفرنسي بأنّ فرنسا ستواصل مساعيها لتقديم مشروع قرار إلى مجلس الأمن يضمن العودة إلى المفاوضات، ندرك أنّ مصير التهديدات الفلسطينيّة يتوقف على نتائج هذه الجهود الرامية إلى استئناف المفاوضات.
علماً أن استئناف المفاوضات من دون تغيير المسار بشكل جذري، بحيث يكون التركيز على تغيير موازين القوى وجمع أوراق القوة والضغط الفلسطينيّة والعربيّة والدوليّة، سيقود إلى ملهاة جديدة، ويؤدي إلى النتائج ذاتها التي انتهينا إليها في المفاوضات السابقة، إن لم يكن أسوأ.
لقد سبق أن هدد الرئيس أكثر من مرة بوقف التنسيق الأمني وتسليم مفاتيح السلطة للحكومة الإسرائيليّة حتى تتحمل المسؤوليّة عن احتلالها، بسبب تنكر إسرائيل للاتفاقات المبرمة مع «منظمة التحرير»، والمضي في تطبيق المخططات الاستعماريّة الاستيطانيّة العنصريّة، وما أدت إليه من خلق أمر واقع احتلالي يجعل إمكانيّة قيام دولة فلسطينيّة تستحق هذا الاسم مستحيلة.
كما سبق أن دافع الرئيس عن التنسيق الأمني، واعتبر أنه يحقق مصلحة فلسطينيّة، لدرجة وصفه في إحدى المرات بـ «المقدّس». وبعد اغتيال الوزير زياد أبو عين وإثر بلوغ الغضب الشعبي والرسمي الفلسطيني ذروته، خرج علينا محمود الهبّاش، المقرب من الرئيس، ليقول إن التنسيق الأمني سيستمر لأنه يحقق مصلحة فلسطينيّة، وهذا التصريح ثبتت صحته، لأن الأحاديث عن وقف التنسيق الأمني طويت بعده، لتعود وتطل علينا مجددًا بالتصريح المنسوب إلى المصدر الفلسطيني المُطّلع.
أصبح التهديد بوقف التنسيق الأمني تارة، وتسليم مفاتيح السلطة تارة، مثل حكاية «الراعي والذئب»، لدرجة أن قرارًا بوقف التنسيق الأمني إذا ما اتّخذ فعلًا لن يصدّقه أحد، وهذا أسوأ وأصعب ما في الأمر، كونه يحوّل مسألة جديّة جدًا إلى مسخرة.
إذا عدنا إلى أصل حكاية التنسيق الأمني، لا بد من القول إنها خاطئة منذ البداية. فمن حيث التسمية، الموضوع أكبر من تنسيق، إذ يتعلق بالمساهمة في توفير الأمن للاحتلال، علماً أنه لا يُعقل أن يقوم طرف يناضل ضد الاحتلال، بتوفير الأمن له كطريق لإنهاء الاحتلال.
توهم البعض أن العمليّة السياسيّة المتولدة عن «اتفاق أوسلو» ستؤدي إلى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينيّة، من خلال تنفيذ الالتزامات المتبادلة التي كان يفترض وفق نص الاتفاق أن تنتج اتفاقاً نهائياً في أيار 1999، أي بعد مرور خمس سنوات على توقيع اتفاق «أوسلو».
وإذا كان الخطأ فادحًا منذ البداية، لأن الاحتلال لن ينهي نفسه ما دام مربحًا لإسرائيل، وما دامت الأخيرة متفوقة عسكريًا وتحظى بالدعم الأميركي، في ظل العجز الدولي والضعف والهوان العربييْن، فإن الخطأ يغدو خطيئة حين بات واضحًا أن إسرائيل لا تريد إبرام تسوية، وأن حكوماتها المتلاحقة منذ اغتيال إسحاق رابين تجاوزت اتفاق «أوسلو»، إذ لم تبق منه سوى الالتزامات الفلسطينيّة (الاعتراف بإسرائيل، والتنسيق الأمني، و «اتفاقيّة باريس» الاقتصاديّة).
تأسيسًا على ذلك، كان من المفترض عدم توقيع «أوسلو» بشروطه المجحفة، وإنهاء الالتزامات المترتبة عليه بعدما ثبت للقاصي والداني أنه لن يقود إلى الحريّة والعودة والاستقلال، خصوصًا منذ انهيار قمة «كامب ديفيد»، وما ترتب عليه من شن عدوان إسرائيلي على الفلسطينيين وسلطتهم وقيادتهم، انتهى بمحاصرة واغتيال ياسر عرفات، الزعيم التاريخي للفلسطينيين.
إن قيمة أي تهديد تنتفي إذا لم تكن هناك نيّة واستعداد وإرادة لتنفيذه، وإلا يصبح مجرد تهديد لفظي يؤدي إلى نتائج عكسيّة، وإلى خسائر صافية للفلسطينيين ومكاسب واضحة للاحتلال. ولعلّ هذا بالضبط ما يفسّر عدم الاهتمام الإسرائيلي بالتهديدات الفلسطينيّة بوقف التنسيق الأمني، لدرجة أنّ أوساطًا إسرائيليّة، أمنيّة وعسكريّة وسياسيّة، تحدّت السلطة مرارًا أن تجرؤ على اتخاذ هذا القرار، لأنّ السلطة إذا اتخذته ستفقد أبرز مقومات وجودها وستنهار. فوقف التنسيق الأمني وما يمكن أن يقود إليه من إطلاق يد المقاومة ضد الاحتلال، سيجعل إسرائيل غير آسفة على انهيار السلطة، بل ستسعى لحلها أو تفكيكها وإعادة تركيبها على مقاس الشروط والأهداف والمصالح الإسرائيليّة.
إن إجراءً بحجم وقف التنسيق الأمني يجب ألا يكون ردة فعل أو مجرد تهديد، ولا وسيلة ضغط من أجل الحصول على العوائد الجمركيّة، أو لاستئناف المفاوضات على الأسس التي قادتنا إلى الكارثة التي نعيشها، إنما يجب النظر فيه واتخاذه في سياق عمليّة مراجعة شاملة، تستهدف الخروج الكلي من نفق «أوسلو» المظلم، وتفتح آفاقًا سياسيّة قادرة على تحقيق الأهداف الفلسطينيّة، وتوفير الشروط السياسيّة والتنظيميّة والاقتصاديّة اللازمة للتعامل مع الوضع الناجم عن هذا القرار، وعلى رأسها إعطاء الأولويّة لإعادة بناء وتوحيد وتفعيل «منظمة التحرير»، بمشاركة مختلف ألوان الطيف السياسي، حتى لا يؤدي انهيار السلطة جرّاء المواجهة المحتملة مع إسرائيل إلى الفراغ الذي ستملأه الفوضى والفلتان الأمني.