بقلم / سعادة مصطفى أرشيد
في مطلع تسعينيات القرن الماضي أدّى اجتياح الجيش العراقي عام 1990 دولة الكويت وضمّها إليه باعتبارها جزءاً من لواء البصرة، الى سقوط النظام العربيّ فقد احتلت دولة عربية دولة عربية أخرى، وشنت لاحقاً دول عربية بالتحالف مع الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً حرباً ضدّ العراق بهدف ظاهري هو إخراجها من الكويت وبهدف مبطن وهو إخراجها من معادلة الصراع مع (إسرائيل)، أعقب ذلك وكـ «مكافأة» للعرب المشاركين في الحرب على العراق أن عقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 واستطاعت إدارة بوش الأب ـ وجيمس بيكر القوية إجبار حكومة (إسرائيل) بقيادة اسحق شامير على قبول وفد فلسطيني توافق عليه منظمة التحرير ويأتمر بأمرها، ذلك الوفد الذي ترأسه الراحل الدكتور حيدر عبد الشافي وهو شخصية محترمة ومرموقة في غزة ومعه لفيف من الأكاديميين المعروفين بقدر متفاوت في أوساط الأراضي المحتلة. في نهاية العام سقط النظام الشيوعي وتفكك الاتحاد السوفياتي، وتفتت حلف وارسو، مما قاد إلى انهيار النظام العالمي ثنائي القطبية والذي ساد في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهكذا أخذ العالم بالتغيّر حولنا.
قدّم الوفد الفلسطيني في مدريد أداء جيداً واستمرّ كذلك بعد انتقال المفاوضات الى واشنطن، وظهرت على وسائل الإعلام العالمية في بداية عصر الفضائيات صورة الوفد بشكل لافت وسرعان ما تحوّلت من شخصيات معروفة للداخل الفلسطيني وعلى نطاق محدود الى شخصيات عابرة للتجمعات الفلسطينية عبر العالم، لا بل الى شخصيات عالمية ذات أداء سياسي واعلامي متميّز، قضمت من الظهور الإعلامي لقيادة منظمة التحرير التي كانت تقيم في تونس، كان قد سبق لتلك القيادة ان شدّدت على الوفد المفاوض بأن يحصر مواضيع التفاوض بخمسة مواضيع هي القدس واللاجئون والمستوطنات والحدود والمياه، وعدم نقاش أيّ ملف آخر وهو ما التزم به الوفد، في حين فتحت قناة سريّة برعاية غربية عامة ونرويجية خاصة للتفاوض المباشر في أوسلو بين وفد من منظمة التحرير ووفد من الحكومة «الإسرائيلية» دون علم الدكتور عبد الشافي وفريقه. وافق وفد أوسلو على تأجيل بحث المسائل الخمس الى فترة لاحقة لم تأت بعد تسعة وعشرين عاماً، وبناء عليه فقد تمّ توقيع اتفاق أوسلو في 13 أيلول 1993 في حديقة البيت الأبيض، بموجب ذلك الاتفاق تعترف منظمة التحرير بـ «إسرائيل» و»حقها بالوجود» (وضمناً بروايتها التاريخية)، مقابل عدم اعتراف (إسرائيل) بالحق الفلسطيني أصلاً وإنما الاكتفاء بالاعتراف بأنّ منظمة التحرير وقيادتها هما الممثلان الشرعيان للفلسطينيين، وعلى إنشاء سلطة فلسطينية على قطاع غزة وجزء من الضفة الغربيّة وظيفتها إدارة السكان والتنسيق الأمني مع الاحتلال ولا تملك سلطة حقيقيّة وإنما بعضاً من مظاهر وقشور السلطة كطوابع البريد والعلم ووثيقة سفر وإنْ حملت اسم جواز سفر، ونشيد وما الى ذلك من مظاهر فارغة، هكذا تنص الاتفاقية بصراحة.
ما أثبتته الأيام كذلك ما ينشر على لسان المفاوضين وشهود تلك المرحلة من فلسطينيين وغير فلسطينيين، أنّ قيادتنا لم تؤخذ على حين غرة وإنما كانت مدركة تماماً لمضمون الاتفاق ووظيفته، وقد أوضح المستشارون القانونيون من عرب وأجانب وبجلاء تامّ أنّ الاتفاق لن يؤدّي الى دولة وإنما الى حكم ذاتي محدود، ولكن الرئيس الفلسطيني السابق المسكون بهاجس الدولة والذي كان يعتقد أنّ سياسات الشطارة والفهلوية التي كانت صالحة قبل أوسلو لن تعود كذلك، وهو قد دخل الشرك «الإسرائيلي» المختلف عن الأشراك الفضفاضة التي خبرها في السابق، وانتهى به الأمر لمغادرة المشهد غيلة وقتلاً.
منذ بضعة أيام مرّت الذكرى التاسعة والعشرون لتوقيع ذلك الاتفاق الكارثي، ونرى بالعين والسمع انّ القدس تهوّد وتتمّ السيطرة على عقاراتها، وانّ المسجد الأقصى قد أصبح مكاناً يومياً يقيم به المستوطنون اليهود صلواتهم التلمودية، وهذا الأمر الذي قد ينحو باتجاهات خطيرة مع عيد الغفران ورأس السنة اليهودية وعيد نزول التوراة في الأسابيع المقبلة، ونرى الاستيطان قد ابتلع أقصى ما يستطيع من الضفة الغربية بعد توقيع الاتفاق المشؤوم، فلم يكن عدد المستوطنين في الضفة الغربية يزيد عن 70 ألف مستوطن قبل عام 1993 وقد وصل اليوم الى قرابة 800 ألف، يعيش هؤلاء بسلاحهم وفي بحبوحة من الأرض والماء اللتين يُحرم منه الفلسطيني، أما الحدود فلا أخبار عنها وقد طوى أمر الاهتمام بها الزمن، فيما لا يزال اللاجئ الفلسطيني في مخيم لجوئه إلا من غادرها باتجاه كندا وأستراليا والدول الإسكندنافية.
اتفاق أوسلو كانت له وظيفة مقايضة البقاء السياسيّ لقيادة منظمة التحرير بالمصالح العليا للشعب الفلسطيني وقد أدّى وظيفته…
*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة.