بَدَتْ السيدة سعديّة فرج الله، وهي متجهة لوضوئها لأجل صلاتها؛ وكأنّها تجرّ معها مَرَضَي الضغط والسكري اللذين داهماها فجأة، وامتصّا طاقتها تماماً، وخلّفا جسداً يحسب الناظر إليه أنّه قد خلا من كل عضل ومفصل. قبل أيّام رأوها على كرسي متحرك، والآن هي تتجه لوضوئها. لا شكّ أنّها حملت جسدها بطاقة روحها هذه المرّة، إلا أنّ للجسد أحكامه مهما كانت الروح قويّة، ومن أحكام الجسد أن تنهار سعديّة بعد الفراغ من وضوئها وتفقد وعيها.
لم يكن هذا حكم الجسد وحده، بل كان الجسد محكوماً بالسجن، وبالإهمال الطبي في السجن. لدى الفلسطينيين مصطلحاتهم، منها: "شهداء الإهمال الطبي في سجون الاحتلال". ولكلِّ وجه من المعاناة مصطلحاته، ووجوه المعاناة كثيرة، وبالرغم من ذلك، فلا شيء من بلاغة اللغة المعجونة من طول المعاناة يمكنه أن يحيط بهذه المعاناة. سعديّة فرج الله وحدها حكاية، لها أحداثها، كل حدث منها حكاية، وهكذا..
التفّت الأسيرات في سجن "الدامون" حول سعديّة فرج الله بعدما غابت عن وعيها بعد وضوئها، وقبل ذلك كانت المشاعر المتبادلة بينهنّ وبينها مختلطة، فلا يخلو أمر المرء من النزوع الدائم إلى البحث عن جدار يستند إليه، وفي العادة يتخيّل المرء أنّ هذا الجدار أخ أكبر، وإن لم تلده أمّه، أو أب أو أمّ، ولو في المكانة. وهكذا يمكن الظنّ أن الأسيرات رأين في سعديّة، أكبرهنّ سنّاً، وهي تجتاز بقدم حياتها عتبة الخامسة والستين من العمر، وفي الوقت نفسه، يفيض المرء بعاطفة حزن لا يظهر قرارها ولا آخرها، وهو يعاين الجدار الكبير وهو ينقضّ.
لكلِّ وجه من المعاناة مصطلحاته، ووجوه المعاناة كثيرة، وبالرغم من ذلك، فلا شيء من بلاغة اللغة المعجونة من طول المعاناة يمكنه أن يحيط بهذه المعاناة. سعديّة فرج الله وحدها حكاية، لها أحداثها، كل حدث منها حكاية
سعدية القادمة إليهنّ منذ بضعة شهور، يمكنها أن تدرك ببديهة فطرتها حاجتهنّ إلى ذلك الجدار، وببديهة أصالتها تستحيل إليهنّ ذلك الجدار تفيض عليهنّ من أصالة الأمومة العميقة، لكنها في الوقت نفسه، تنظر إليهنّ بكونهنّ الأسبق منها إلى السجن، والأكثر خبرة ودراية بشأنه منها، فهي تحتاجهنّ مرتين، مرّة كونها قادمة جديدة إليهنّ، والقادم الجديد لا يخلو من اغتراب الطفولة، ومرّة وهي تلحظ في نفسها انقضاضها وانسحاب الطاقة من جسدها. وسيكون حزنها، والحالة هذه، مركّباً، من حزن الكبير وهو ينظر مغادرة الحياة جسده، ومن حزنه وهو يحتاج من يحتاجه!
وُلدت السيدة سعديّة سالم رضوان فرج الله في العام 1957، بعد النكبة بأقل من عشر سنوات، وقبل الهزيمة المسماة نكسة بعشر سنوات. هذه المسافة التي تبدو مثالية في فصلها بين الهزيمتين اللتين شكّلتا كلّ شيء بالنسبة للفلسطينيين، حملتها سعديّة على ظهرها، لتذوي تحتها، في سجن الذي هزم العرب والفلسطينيين في المرتين. الحكاية هذه بدورها مثالية في سعيها المضني لاختصار المعاناة الفلسطينية وهي تحمل في جوهرها العلاقة المعقّدة بين الفلسطيني وبين نفسه، وبينه وبين العربيّ، وبالضرورة بينه وبين عدوّه.
كيف وصلت سعديّة في الثامن عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2021 إلى السجن؟ في ذلك اليوم نقل مارّة بكاميرات جوّالاتهم مشاهد امرأة مُسنّة ملقاة على الأرض في ما تبدو بلدة قديمة للفلسطينيين، وبعض من قوّات ما يسمّى "حرس الحدود" يحيطون بها. كانت البلدة القديمة هي بلدة الخليل، بالقرب من المسجد الإبراهيمي، والسيدة هي سعديّة فرج الله. كانت تلك القوّات تقاتل سعديّة، كان هؤلاء الجنود الشبّان يضربون سعديّة، يضربونها في منطقة مدجّجة بالجنود، ومدجّجة بالبوّابات الحديدية، ومدجّجة بكاميرات الرقابة، فلا يمكن للفلسطينيّ أن يدخل المسجد الإبراهيمي المقسّم بينه وبين الصهيوني، إلا بعد أن يَعْبُرَ هؤلاء الجنود وتلك البوابات.
قيل إنّ سعديّة، القادمة من بلدة إذنا قرب الخليل، حاولت طعن مستوطن عمره 38 عاماً، وقيل إنّ سعدية أصابته بجروح. للعدوّ عاداته في مثل هذه الأوضاع، فسنّ المرأة وضعفها لم يكن ليمنع الجنود المدجّجين من نقل حقدهم من صدورهم إلى أياديهم وأرجلهم بضربات وركلات تستغرق جسد هذه المرأة، ثم تركها تنزف قوّتها على أرض الخليل مانعين عنها الإسعاف، إلى حين نقلها إلى مركز التحقيق، فاقدة وعيها، جسداً بلا قوّة.
كانت المحكمة العسكريّة، فرصة سعديّة الوحيدة لرؤية أهلها، وأبنائها الثمانية المقسومين بالتساوي ذكوراً وإناثاً، فهي ممنوعة أمنيّاً من الزيارة. المنع الأمني من مصطلحات الفلسطينيين متعدّدة المعاني، فالمنع الأمني قد يعني منع دخول القدس للصلاة، ومنع أخذ تصريح لدخول الأراضي المحتلة عام 1948، ومنع السفر، وكذلك منع الزيارة في السجن. بهذا المنع من الزيارة، تتضح المشاعر المختلطة بين سعديّة وبين الأسيرات في سجن "الدامون".
شاهدها أهلها على كرسيّ متحرك في قاعة المحكمة. المرأة التي أصابت مستوطناً شابّاً بجروح، كما يزعم الاحتلال، والتي احتملت ذلك الضرب كلّه من الجنود المدجّجين قرب المسجد الإبراهيمي، ضمرت قوّة أقدامها عن حملها. كيف فقدت سعديّة قوّتها وهي لم تكن تعاني المرض قبل اعتقالها كما يقول أهلها؟ أيّ قهر قذف السكريّ والضغطَ في قليل من الشهور في جسد سعديّة حتى انسحبت منها قوّتها، وانقضّ جسدها، جدار الفتيات في السجن، فجأة بعد وضوئها للصلاة؟
ماتت سعديّة، ماتت في السجن، ماتت في سجن "الدامون". هذه الحكاية الغزيرة في شهور سبعة إلا قليلاً من الأيام، ظهرت خبراً عابراً مرّتين، مرّة حين اعتقالها، ومرّة حين موتها، ماذا حصل بين المرّتين حتى زرع القهر في جسدها المرض المُجهِز؟ وفي المرتين كانت خبراً عابراً
ماتت سعديّة، ماتت في السجن، ماتت في سجن "الدامون". هذه الحكاية الغزيرة في شهور سبعة إلا قليلاً من الأيام، ظهرت خبراً عابراً مرّتين، مرّة حين اعتقالها، ومرّة حين موتها، ماذا حصل بين المرّتين حتى زرع القهر في جسدها المرض المُجهِز؟ وفي المرتين كانت خبراً عابراً، لم يدقّق فيه الأكثرون.
لم تكن سعدية لتثير الجدل. امرأة فلسطينية كما بقية الفلسطينيات، فلا شيء يدفع عرباً ومسلمين إلى فلسطين حديثاً عابراً عن هويّتها الطائفية، أو عن أفكار مختلفة لها، فهي امرأة مسلمة عاديّة، وكأنّ ضربها، واعتقالها، ومرضها الداهم، وموتها في السجن، لا يكفي لاستدعاء هؤلاء! كأنّ قضية الظلم والعدالة، لا تستدعي اهتماماً، وكأنّ المرأة المسلمة لا تستدعي الاهتمام إلا في سياق هويّاتيّ خاصّ، وهكذا يمكن مدّ الأسئلة عن فلسطين كلّها.
وهكذا يمكن طرح السؤال الأخير: قال العدوّ إنّ هذه المرأة أصابت مستوطناً بجراح في عملية طعن بالقرب من المسجد الإبراهيمي. لا تندفع امرأة إلى مثل ذلك إلا بهمّ عامّ ضجّ في قلبها، ورغبة عارمة بالثأر، وإرادة متعاظمة للمساهمة بشيء في سبيل ذلك الهمّ العامّ، لم تكبحها المسافة من بلدة إذنا إلى المسجد الإبراهيمي بالتردّد. هذه المرأة كيف تصير خبراً عابراً لم يطرق سمع الأكثرين؟!