حماد صبح
اهتزت إسرائيل ، وما أسهل أن تهتز دائما ، بعد العملية التي أطلق فيها مقاومون فلسطينيون النار على الجنود والمستوطنين الإسرائيليين الذين اقتحموا قبر يوسف شرقي نابلس في مسلسل اقتحامهم الشهري له ، وأصيب روعي تسويغ قائد الجيش الإسرائيلي شمالي الضفة ، ومستوطنان ، وفي اهتزازها وصدمتها من العملية ، وصفتها بعض المصادر المسئولة فيها ب ” الخطيرة والجريئة ” ، وهي جريئة بجميع المقاييس حين تكون القوات الإسرائيلية المقتحمة 30 آلية عسكرية تتقدمها جرافة لإزاحة ما قد يعترضها من عوائق .
وبادرت حركة الجهاد الإسلامي بالكشف أن المقاومين من ” سرايا القدس ” ذراعها العسكرية ، ويتبعون كتيبة نابلس رديف كتيبة جنين التي تقاتل القوات الإسرائيلية ، وتقتل منها ، وتمنعها من الاقتحام الشامل لجنين ، وفي كشف الجهاد عن العملية أنها رد ثأري لاستشهاد محمد مرعي عضو كتيبة جنين ، فجر الأربعاء . وسرعة الرد في ذات اليوم تنبىء عن قدرة عليه في ظروف تكاد تكون كلها في صف قوات العدو ومستوطنيه .
وترى إسرائيل في العملية فشلا استخباريا ، وهنا هي تلمح إلى قصور أجهزة السلطة الفلسطينية التي انسحبت من المكان مثلما هو متفق مع إسرائيل في منظومة التنسيق الأمني ، وقت الاقتحام الشهري ، إلا أنها لم تفِ بما فيه من تكليف لها ، بعد انسحابها ، بتأمين الاقتحام من أي معوقات فلسطينية مدنية أو مسلحة . وستحاسب السلطة الفلسطينية حسابا قاسيا على هذا القصور . وفي هذه الحقيقة المأساوية ما يبين الوظيفة الكبرى التي تقدمها السلطة للأمن الإسرائيلي في الضفة وفي الداخل المحتل ؛ حماية للجنود والمستوطنين ، وتوفيرا لتكلفة هذه الحماية المالية والاستخبارية ، وهي من مسوغات وصف الاحتلال الاستيطاني بأرخص احتلال في التاريخ .
ومن مصائب هذه الوظيفة على الفلسطينيين ومكاسبها لإسرائيل أنها سهلت عليها الاستيطان في الضفة والقدس ، وفتحت الباب لتضخم عدد المستوطنين فيهما وتهويدهما خاصة القدس ، وزعزعة استقرار الفلسطينيين ، وتحويل حياة مئات الآلاف منهم جحيما لا صبر عليه . وكل ما تفعله إسرائيل ومستوطنوها في الضفة والقدس هدفه إخلاء المنطقتين منهم خطوة خطوة لعلمها أنه لا أمان لها ولا بقاء ما دام الفلسطينيون موجودين في وطنهم بهذه الكثرة البشرية التي تفوق عدد مستوطنيها بمليوني مواطن . وهذه المقاومة المسلحة تسلب جنودها ومستوطنيها الأمن الضروري للاستقرار والاستيطان .
الجنود لا يريدون أن يضحوا بحياتهم دفاعا عن مستوطنين يعلمون أن أكثرهم ما قدم إلى الضفة إلا طمعا في المزايا والتسهيلات التي تقدمها الدولة لهم ، وأن أكثرهم لو كان يملك بيتا في الداخل الفلسطيني المحتل ما تركه وقدم إلى الضفة . وأكثر هؤلاء المستوطنين لا يغامر بحياته طمعا في تلك المزايا والتسهيلات ، لكن ” أهلا بها ” مع الأمان . وفي مستهل الانتفاضة الثانية هربت 17 عائلة من مستوطنة نفيه شمرون غربي نابلس مندحرة إلى الداخل المحتل . ومنذ شهرين ، نشر في إسرائيل خبر عن عرض مستوطنين بيوتهم للبيع إلى فلسطينيين ، وليس في الخبر بيان كيفية إتمام هذا البيع وزمانه ، أهو وقت العرض أم بعد انسحاب يتوقعونه ، ويتحسبون له . وتحرير الضفة الغربية بالمقاومة المسلحة ليس مستحيلا ولو طال زمنه موازنة مع تحرير غزة بها .
وربما يقدر بعضنا أن الحال مختلف في المكانين ، وأن التحرير أرجح في في كفة غزة . وهنا يلزمنا أن نتذكر بعض ما كان يقوله الإسرائيليون عن قوة تشبثهم بالبقاء في غزة ، ومشهورة هي عبارة شارون في تشبيه منزلة مستوطنة نيتساريم ، بين غزة والنصيرات ، بمنزلة تل أبيب ، وكثيرة هي المشروعات الزراعية والصناعية والمؤسسات التعليمية والدينية التي أقاموها في مستوطناتهم في غزة ، وغصبتهم المقاومة المسلحة بمدفعية الهاون المحلية الصنع ، وباقتحام المستوطنات ، وبإطلاق النار على المستوطنين والجنود في طرقهم الالتفافية ؛ على الانسحاب .
وفي غزة سلبيات كان ممكنا أن تعيق تحريرها لو خضعت المقاومة لتأثير هذه السلبيات ، وأظهرها صغر مساحة غزة ، 360 كم مربعة ، وخلوها من الموانع والسواتر الطبيعية مثل الجبال والأودية السحيقة والغابات الكثيفة التي تسهل اختباء المقاومين ، وتُعَسِر على العدو كشفهم وتعقبهم فيها ، لكن المقاومة أيقنت أن السلاح هو الوسيلة الفعالة للتحرير ، فلجأت إليه ، وكانت محقة صائبة في لجوئها .
والمسألة واضحة عقلا ومنطقا : إسرائيل تحتل ما تحتله من الوطن الفلسطيني بقوة السلاح ، وهي ، استنتاجا ، لن تخلي أي جزء منه إلا بقوة مماثلة ولو لم تكن معادلة . وتظل عبارة الراحل هيكل ” ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة ” صحيحة أبدا . وفي الضفة الغربية مزايا مرجحة للتحرير بالمقاومة المسلحة ، ومنها كبر مساحتها البالغة 8400 كم متر مربعة ، وكثرة جبالها وأوديتها وبساتين زيتونها وبرتقالها الصالحة لتكون ملاذات للمقاومة ، والمماسة اللصيقة بين مواطنيها والمستوطنين والجنود الإسرائيليين ، ويعجبني قول محلل فلسطيني من وحي هذه المزايا : ” حجر في الضفة أهم وأفعل في المقاومة من صاروخ من غزة . ” . وحررتُ لغويا آلاف الصفحات من سير شهداء وأسرى المقاومة في الضفة والقدس ، فذهلت من أسطورية بطولاتهم ، وبراعات خططهم في إعداد عملياتهم وتنفيذها ، ومتانة إيمانهم بحقهم في تحرير وطنهم ، وثقتهم في حتمية هذا التحرير ثقة قدرية خالصة لا تدنو منها شائبة ريبة .
وشعرت عميقا وبألم حارق أن تلك التضحيات كانت كافية لتحرير الضفة ، وبأن الإخفاق في التحرير تفسيره غيبة البيئة السياسية المعززة له ، والجوار الملائم المُعِين ولو نسبيا ، ولو توفرت هذه البيئة والجوار لتحررت الضفة الغربية مثلما تحررت غزة . وتحرير الضفة اكبر خطورة ومصيرية على إسرائيل أضعافا متضاعفة من تحرير غزة . إنه متفجرة في قلبها لها ما بعدها على طريق تحرير الوطن الفلسطيني من نهره إلى بحره .
كاتب فلسطيني