بقلم: د. أسعد جودة
المسجد الأقصى، هو آية في كتاب الله "سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ" ، وهو قبلة المسلمين الأولى تشد الرحال إليه، وثالث الحرمين الشريفين. منه تم الصعود وفيه اكتمل الدين وإمامة الأنبياء جمعيا عليهم السلام، أرض المحشر والمنشر وأقصر الدروب في ربط السماء بالأرض.
فتح المسلمون بيت المقدس العام ١٥ هجرى ٦٣٦م، وجاء الخليفة عمر بن الخطاب _رضي الله عنه_ لفلسطين وتسلم مفاتيحها من البطريرك صفرونيوس، وأعطاهم العهدة العمرية، وكما روى عن سيدنا عمر عليه _رضي الله عنه_ كان يقول من أراد أن ينظر إلى بقعة من بقع الجنة فلينظر إلى بيت المقدس.
ظلت فلسطين والقدس تحت حكم الإسلام، إلى أن احتلها الصليبيون عام ١٠٩٩م، وارتكبوا المجاز وقتلوا معظم أهلها ومكثوا فيها قرابة ٨٨ عام، وحولوا مسجد قبة الصخرة إلى كنيسة السيد المسيح، أما المسجد الأقصى فحولوا جزءاً منه إلى كنيسة، والجزء الآخر إلى إسطبلات خيول.
القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي حررها عام ١١٨٧م، وعادت لحضن قيادة الأمة الإسلامية تتابعًا لحين احتلالها على يد الجنرال البريطاني "إدموند اللنبي" في ديسمبر/كانون الأول 1917م، بعد الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية وتقسيم ممتلكاتها وإتفاقية سايكس - بيكو الكارثية وتحويل جسم الدولة الخلافة الى فسيفساء بما يسمى الدولة القطرية والحدود المصطنعة المتفجرة والاستقلالات الوهمية وأنشأوا جامعة الدول العربية العام ١٩٤٥م .
وجاء وعد بلفور المشوؤم ١٩١٧م، وبعدها قرار عصبة الأمم المتحدة ١٩٢٢م وانتداب بريطانيا على فلسطين لتترجم الوعد إلى حقيقة.
هذه المستعمرة في العقل الغربى هي الثكنة العسكرية المتقدمة في الحوض العربي الإسلامي لتفتك به وتحول دون ترابطه، إذن هو جسم مستنبت ومزروع ليكون الذراع المتقدم في استمرار الهيمنة والبلطجة وامتصاص الثروات ونهبها والحيلولة دون الوحدة بل نسف لكل تاريخ هذه الأمة وجوهر وجودها العقدي عبر تدنيس المقدس وهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم، حتى وصلت للحظة التي يعلن عن قيام المستعمرة الملعونة ما يسمى دولة "إسرائيل" في ١٥ مايو ١٩٤٨م بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية العام ١٩٤٥م.
العدو الصهيوني ومنذ الإعلان عن قيامه وهو يعمل على مدار الساعة لترجمة رؤية "هرتزل" مؤسس الحركة الصهيونية والأب الروحي للدولة اليهودية ومقولته "لا قيمة للصهوينية بدون قيام دولة يهودية (إسرائيل) ولا قيمة "لإسرائيل" بدون أورشليم ولا قيمة لأورشليم إلا بوجود الهيكل".
وجاءت المرحلة الثانية في إستكمال المشروع بمسرحية العام ١٩٦٧م التي يطلق عليها نكسة؟! وهزيمة أنظمة عربية واستلام بقية جغرافية فلسطين الضفة الغربية القدس الشرقية وقطاع غزة، وأراضي عربية أخرى سيناء المصرية والجولان السورية ومزارع شبعا اللبنانية للدخول مستقبلًا بمفاوضات لعقد اتفاقات سلام بدل الهدنة.
اليوم بعد ٧٤ عام من الإعلان عن قيام المستعمرة (إسرائيل)، و٥٥ عام على احتلال بقية فلسطين وصل العدو للنقطة الحرجة الذي لا يمكن أن يتراجع عنها وهي حسم موضوع مشروع القدس الكبرى بهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل لإستكمال رؤية المؤسس "هرتزل" وجوهر وجود الدولة كما يزعمون؟!
على طريقة شكسبير في مسرحية هاملت " To be or not to Be نكون او لا نكون.
على الجانب الآخر الواقع الفلسطيني والعربي والاسلامي اليوم شديد التعقيد والتأزم،.
م.ت.ف دخلت في مقامرة سياسية من منتصف السبعينيات بتشجيع عربي وإسلامي رسمي مصحوبًا بمباركة وتسهيل دولي حتى عام ١٩٩٣م، تمخض بولادة إتفاق مشوه أعطى أرض فلسطين التاريخية ٧٨% للعدو، وأعترف به وقبل بالتفاوض على ٢٢% وأجل البحث في القضايا الجوهرية القدس والعودة والحدود والسيادة، مضى عليه قرابة ثلاثين عام لم ينتج إلا الموت والدمار وللأسف الشديد حتى العرب قفزوا عن مبادرتهم ٢٠٠٢م المتمخضة عن قمة بيروت، سيئة الذكر ويتسارعون للتطبيع والهرولة ولم يعودوا قادرين على الإنتظار.
في المقابل، القوى الرافضة لمشروع الهوان، من بداياته حماس - والجهاد الإسلامي، وإنحازت معها غالبية فصائل المنظمة، وأخرى خارجها، ليقينها أن المعركة مستمرة والعدو ماض في المخطط الاحللالي والتصفوي للقضية، الجسم الرافض وتحديدًا حماس والجهاد الإسلامي تعرض لكل صنوف القمع والاظطهاد لثنيه عن مواصلة الطريق.
قوى المقاومة بإيمانها الراسخ بحتمية الانتصار وزوال الاحتلال الذي لم يتزعزع في أحلك الظروف ظلت تراكم وتعزز وتطور من قدراتها وأجبرت العدو على الهروب من غزة كما هرب من جنوب لبنان لارتفاع كلفة احتلاله، وعادت غزة العزة أرض محررة شيد عليها سلطة مقاومة، شن عليها العدو أربع عدوانات تدميرية قتل عشرات الألاف وجرح أضعافهم وهدم وشرد ولكنه فشل فشلًا ذريعًا في تحقيق أهدافه بتغيير الواقع وإعادة الاحتلال، وحاصرها قرابة خمس عشر عام متواصلة ولا زال لكسر الإرادة وكي الوعي ولم يفلح.
العدو الصهيوني اليوم، يصارع ويعد العدة ويحسب بالأيام والساعات وبقوم بالمناورات الغريبة تنتهي يوم إعلانه عن اقتحام المسجد الأقصي يوم ٢٩ من هذا الشهر، لحسم مشروع القدس الكبرى، بعدما أحدث تغييرات مذهلة على مستوى الديمغرافيا والطوبغرافيا في مدينة القدس على مدار خمسة وخمسبن عام، ووصل للنقطة الحرجة والصاعقة وهي الشرارة بالبدء في الإجراء بتحدٍ صارخ لتحقيق الهدف الاستراتيجي وهو هدم المسجد وإقامة الهيكل ليكتمل دور الريادة والسيادة السياسية والروحية العالمية لهذا المشروع الصهيوني الإنجيلي التلمودي السرطاني البروتستانتي، واليوم يعلنوها صراحة ويجاهرون "الدين الابراهيمي" الذين يروجون له؟!.
هذه هي النقطة الصدامية التي لا يمكن للعدو أن يتراجع عنها أو يلغيها، قد يرواغ ويؤجل للمصلحة، وبالمقابل المقاومة ومحورها ويفترض كل مكونات الأمة لا يمكن أن تسلم بالأمر الواقع.
من هنا كانت بركة الله وتوفيقه وجاءت معركة "سيف القدس" مايو العام الماضى ٢٠٢١م بعد عقود من الإعداد والمنازلة والصبر واالتحضير.
أولًا:
المعركة في البعد الاستراتيجي شكلت حدًا فاصلًا وطرحت تساؤلات مهمة، هل الأمة بكل مكوناتها المطبع قبل المقاوم تقبل بهدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم؟، هدم المسجد وإقامة الهيكل؟ يعنى عمليًا إهانة واستخفاف بالعقيدة الإسلامية والرسالة المحمدية.
ثانيًا:
أعادت بناء الوحدة الفلسطينية الداخلية التي عمل العدو عقودًا على خلق تصنيف لكل شريحة فلسطينية بحسب الجغرافيا وهموم خاصة بها، فعادت الأضلاع موحدة وحدة الشعب والأرض والهدف والمصير.
ثالثًا:
المقاومة بكل أشكالها أضحت الخيار الوحيد الذي يقف أمام التغول الصهيوني وحلفائه في برنامجه الإجرامي الجهنمي وباعث وأمل متجدد.
رابعًا:
أعادت الألق والقيمة للقدس والمسجد الأقصى وأهميتة ومكانتة لدى الأمة.
خامسًا :
عززت من دور ومكانة محور المقاومة ووضعت المهرولين والمطبعين أمام تحديات جسام.
سادسًا:
أدخلت العدو في أزمة داخلية معقدة على كل الصعد الأمنية والاستخبارتية والإقتصادية والنفسية، وكانت العمليات الإستثنائية خير شاهد، وانفجار وتمرد الفلسطينيين في الداخل المحتل عام الـ٤٨، كان بمثابة زلزال، ناهيك عن ترهل وتهلهل الحالة السيادية وإمكانية سقوط الحكومة وحل الكنيست ودخول في متاهات.
التحدي الأكبر بعد عرض النتائج، ما الخيارات والبدائل الإستراتيجية المطلوبة للبناء على نتائج معركة سيف القدس وعلى التهديدات المتواصلة من قبل العدو في المضى قدمًا في تنفيذ برنامجهم الكارثي.
أمام هذا الظرف الهام واللحظة الحاسمة ودراسة كل الأبعاد العقدية والواقعية والتاريخية والمستقبل من المنظور الاستراتيجي، يمكن الجزم بأن هذه فرصة ذهبية ومنحة إلهية لإعادة تقييم مسار الأمة ككل وبداية للصعود في دورة حضارية عالمية وتجسبد قول الله تعالى: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ".
وهنا تصبح مقولة المفكر الراحل "محمد عمارة" _رحمه الله_ حقيقة أن الذين يخافون أسلمة الصراع حول القدس وفلسطين حتى في أحسن الاحوال هم السفهاء".
الخيار الأول: على المستوى الفلسطيني الرسمي، والأساس لمواجهة التحدي والطوفان وهذا الزلزال:
- الدعوة العاجلة لإجتماع طارئ من رئيس المنظمة والإطار القيادي للمنظمة وقوى متنوعة وشخصيات إعتبارية لإتخاذ قرارات مصيرية وأهمها:
- - تقوم منظمة التحرير والسلطة بتنفيذ قرارات سابقة اتخذت من مجالسها الوطني و المركزي بإلغاء العمل باتفاقية أوسلو وسحب الإعتراف بالكيان.
- - إطلاق يد الشعب والأجهزة في الضفة الباسلة للمقاومة والتمرد والعودة لخيار الشعب ولقرار الراحل الرئيس "ياسر عرفات" الذي اكتشف خدعة أوسلو ودعا لإنتفاضة الأقصى وقدم روحه شهيدًا، "إن كلفة المقاومة والتحرير أقل من البقاء تحت بساطير الإحتلال المجرم".
- - القائمة المشتركة في الداخل الفلسطيني تقرر الانسحاب من الحكومة المجرمة التي ستنتهك العقيدة والتاريخ والهوية وتلغي الماضي وتستبيح المستقبل وتستنفر كل قواها للتمرد والعصيان والزحف للقدس.
- - الشعب الفلسطيني بكل قواه في غزة مشاغلة مستعمرات الحدود وتهجيرها والتهديد باحتلالها، و تبقى ظهيرًا وسندًا استراتيجيًا للكل الفلسطيني.
- - الفلسطينيين في الشتات كل في موقعه وبحسب ظرفه مشاغلة من الحدود والتطوع في البلدان المضيفة ولا سيما لبنان وسوريا والأردن.
على المستوى الرسمي العربي والاسلامي، الجامعة العربية ومنظمة التعاون الاسلامي الدعوة لمؤتمر قمة عاجل لاعتماد آلية في موعد محدد، وتدعو المنظمة و كل الفصائل وقوى الشعب الفلسطيني جدول أعماله، قطع العلاقات مع العدو الصهيوني وسحب الاعترافات والإعلان صراحة عن تسخير إمكاناتها لتحرير القدس ليشعر العالم والعدو الصهيوني بقيمة الأمة ومكانتها متى ما توحدت ويشعر العدو أنه في المكان الخطأ والزمان الخطأ.
النقطة الثانية رسالة لكل دول العالم أننا لن نقبل أن نعطى الدنية، ونقبل ونتسامح ونتفرج وعقيدتنا تهدم ويداس على كرامتنا ويهان إسلامنا عمليًا إستخدام كل أوراق القوة المذهلة الموجودة في حوزتها الحدود الملاصقة الثروات المذهلة، الشعوب متعطشة لتحرير مسرى النبى _محمد صلى الله عليه وسلم_.
فلسطين والقدس هي المنحة الإلهية والفرصة الذهبية والممر الإجباري الوحيد لإعادة الوحدة والنهضة والدور والمكانة والخيرية، ها هو العالم الغربي يموج في صراعات على النفوذ والمصالح والهيمنة والبقاء ولن تقبل الأطراف المتنازعة اليوم بالسقوط والهزيمة لو كلفها إبادة البشرية جمعاء، واليوم باتت الأمة بحجم الإزدراء وهي تشاهد المعايير المزدوجة في التعامل والنظرة التي ينظرها الغرب لتلك الكيانات الإسلامية والعربية.
"وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ "