بقلم: د. محمد السعيد إدريس
على عكس ما قد يبدو ظاهراً من الأداء الانفعالى والاستعراضى لكيان الاحتلال الإسرائيلى فإن واقع المشروع الذى يعبر عنه يكشف عن ميل أصيل نحو الأفول فى ظل الانكماش الراهن لهذا المشروع ضمن حدود يرسم معالمها الحقيقية "جدار الفصل العنصرى" الذى أقاموه فى قلب الضفة الغربية، بدلاً من دعائية مشروع "إسرائيل الكبرى" الممتدة من النيل إلى الفرات، ناهيك عن القيود التى وضعها قانون "القومية" الذى جعل كيان الاحتلال "دولة يهودية" ارتضت أن تكون معزولة بيهوديتها رغم ما يروج له من طموحات للتوسع، حتى لو كان افتراضياً، عبر ضغوط أمريكية لتوسيع دائرة التطبيع العربية مع هذا الكيان ما يؤكد بتبعيته المفرطة أمريكياً أمنياً وسياسياً بل واقتصادياً .
خطورة هذا الانكماش فى التمدد الإسرائيلى أنه يتزامن مع انكماش أضحى مؤكداً فى المشروع الأمريكى الأمر الذى يضاعف من تأثيراته السلبية على فعاليته ومستقبله نظراً لاعتماده المفرط على المشروع الأمريكى.
أفول المشروع الصهيونى له أسبابه الكامنة فى جوهر المشروع ذاته على نحو ما كشف إبراهام بورج رئيس الكنيست الإسرائيلى (البرلمان) الأسبق الذى اعتزل الحياة السياسية عام 2004 والذى وصف إسرائيل بأنها "دولة فاشية واستعمارية تقودها زمرة لا أخلاقية من الفاسدين الخارجين على القانون". بورج قال هذا الكلام فى حديث شهير مع صحيفة "يديعوت احرونوت" بمناسبة صدور كتابه الذى حمل عنوان "الانتصار على هتلر" الذى ذهب فيه إلى أن إسرائيل تسير على خطى هتلر، وأنها تنتظر المصير ذاته، طالما ظلت متمسكة بالصهيونية ومعتمدة على السيف والعنف فى إخضاع الفلسطينيين وسحقهم.
كلام بورج ليس استثناءً فى هذا الاتجاه بل إنه يجد من يؤكده ويدعمه على نحو ما خلص إليه شلومو ساند الأستاذ بجامعة تل أبيب فى كتابه "كيف تم اختراع الشعب اليهودى من التوراة إلى الصهيونية" وما أيده كتاب "كشف الغطاء عن التوراه" لمؤلفيه الأثريين: إسرائيل فينكليشتاين وأشريلبرمان وكذلك امنون رونشتاين الوزير الأسبق وأستاذ القانون بجامعة تل أبيب الذى تخصص فى الكتابة عن مستقبل الدولة الصهيونية والذى أكد حقيقة أن إسرائيل لا يمكنها البقاء بسبب أنواع متعددة من التهديد أهمها أسباب داخلية تعود إلى انتشار الفساد وتآكل ما يسميه بـ "منظومة القيم الصهيونية" التى تعبر عن نفسها فى تزايد ميل الشباب الإسرائيلى لعدم التضحية من أجل الدولة والذى يعكسه تراجع الحماس فى صفوفهم للانخراط فى سلك الجندية وهى نقطة أيده فيها إيرز ايشيل مدير مدرسة "إعداد القادة" فى تل أبيب فى مقال نشرته صحيفة "يديعوت احرونوت" وقال فيه: "إن أحد أبرز مصادر هدم منظومة القيم هذه تتمثل فى حقيقة أن القادة لم يعودوا مثالاً يحتذى به الشباب الإسرائيلى، إذ فى الحين الذى يصرخ فيه قادة الدولة مهددين بشن مزيد من الحروب، فإنهم يستثنون أبناءهم من تحمل عبء هذه الحروب".
تآكل منظومة القيم الصهيونية وانفراط تماسك أعمدتها الأيديولوجية له هو الآخر أسبابه الكثيرة بعضها يتعلق بحقيقة كون الكيان الصهيونى "شركة مساهمة" هدفها الربح وتحقيق المكاسب، وإذا ما تعرضت الشركة إلى الخسارة يحدث الانهيار، وهنا تبرز أهمية وقيمة الانتفاضة وأهمية وقيمة حرب صيف 2006 على لبنان التى استطاعت تعرية الحقيقة الزائفة لقوة وتماسك الدولة والمجتمع فى الكيان الصهيونى لصالح حقيقة أخرى هى هشاشة الجبهة الداخلية فى هذا الكيان.
فعندما وصلت صواريخ حزب الله إلى مدينة حيفا وتجاوزتها، بدت الجبهة الداخلية الإسرائيلية أقرب إلى الانفراط لدرجة أن رئيس الأركان الإسرائيلى حينذاك أعطى الأولوية لوضعية أسهمه فى البورصة الإسرائيلية على وضع الجبهة العسكرية المسؤول عنها، وجاء وزير الحرب حينئذ إيهود باراك ليؤكد هذه الحقيقة، وهى أن "إسرائيل لا تستطيع تحمل حرب تحدث على أرضها".
باراك فى حديث مهم لصحيفة "يديعوت أحرونوت" وفى معرض الحديث عن العلاقة مع سوريا واحتمالات الحرب مع حزب الله قدم خلاصة مهمة يجب أخذها فى الاعتبار ليس فقط من جانب صانعى القرارات السياسية والعسكريين العرب بل أيضاً من جانب النخب المشاركة فى تكوين الرأى العام العربى وموقفه من الكيان الصهيونى وبالذات رؤيته وتصوره لهذا الكيان. قال باراك بالنص: "يجب منع الحرب، أما إذا فرضت علينا، فيجب أن نكون جاهزين لها، وأن ننتصر بسرعة، على أن يكون ذلك على أرض العدو، ومن دون إلحاق ضرر بجبهتنا الداخلية".
واقع ما بعد حرب صيف 2006 جعل خيار الحرب ترفاً لا تستطيع إسرائيل تحمل تبعاته وتداعياته، لكن خوض "إسرائيل" الحرب يجب أن يكون بشروط، أولها: أن تكون حرباً مفروضة كى تكسب دعم الرأى العام الإسرائيلى. وثانيها: أن تمتلك فرص النصر السريع، فـإسرائيل لا تتحمل حرباً طويلة المدى، والأهم أن تكون بعيدة عن "أرض إسرائيل" لأن الجبهة الداخلية لا تتحمل حرباً.
هذه الخلاصة تدفع إلى فرض قناعة ظل كثيرون يخجلون من الحديث أو الاقتراب منها، بسبب العجز العربى عن مجاراة الكيان الصهيونى فى قوته وانتصاراته طيلة عقود مضت، وهى حقيقة أن هذا الكيان.. إلى زوال.
هم وحدهم، الإسرائيليون يدركون ذلك لأنهم مهمومون بالقضية نظراً لأنها تمس وجودهم، وفى السنوات الأخيرة أخذت الشروط تفرض نفسها، ابتداءً من نضوب مخزون الهجرة اليهودية إلى الكيان الصهيونى وتراجع حاد فى معدلاتها مما اضطر قادة الكيان إلى قبول هجرات "غير يهودية" من روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتى السابقة، مروراً بارتفاع معدلات النزوح من الكيان إلى الخارج، لكن الأهم أن هذا النزوح يعكس ميلاً متزايداً من النازحين نحو "حياة الترف" الأمر الذى يعبر عن "ميول هروبية" حقيقية من الكيان لدوافع أمنية ومعيشية، فهم يخرجون من الكيان ويتوجهون أساساً نحو كل من ألمانيا وكندا حيث حياة الترف والاستقرار.
قد لا يكون تراجع معدلات الهجرة من الكيان وارتفاع معدلات النزوح منه دليلاً أو مؤشراً على احتمال الزوال، لكنه يكشف ميلاً نحو الانصراف عنه، وإذا كانت الدولة الإسرائيلية قامت أساساً على فكرة "التجميع" فإن فكرة "الانصراف" هى النقيض المباشر، وإذا كان "التجميع" خلق الدولة فإن "الانصراف" عنها يعنى تلاشيها وزوالها، رغم ذلك فإن مراكز البحوث والدراسات الإسرائيلية أخذت ترصد فى السنوات الأخيرة ظواهر أخرى جديدة وخطيرة تؤكد فكرة الزوال وتنقلها من إطار "الأسطورة" إلى إطار "الواقع".
الدراسة التى أعدتها جامعة حيفا تحت عنوان "دولة تل أبيب تهديد لإسرائيل" تحت إشراف ارنون سوفير تقول أن اتجاه الإسرائيليين إلى التجمع سكانياً فى محيط تل أبيب نتيجة التميز فى الخدمات مقارنة بـ "أطراف الدولة" تطور شديد الخطورة من الناحية الأمنية، وكفيل بأن يعرض أكثر من نصف سكان إسرائيل للإبادة فى حالة تعرض المدينة إلى هجوم صاروخى مركَّز.
أما الدراسة التى أعدها ياجيل ليفى المدرس بقسم السياسات العامة فى جامعة بن جوريون وهو مؤلف كتاب "من جيش الشعب إلى جيش الضواحى" فهى الأخطر لأنها تتحدث عن تداعى قلب الكيان الصهيونى نفسه، بالحديث عن وجود ميل يتزايد لدى العائلات والشباب للانصراف عن الخدمة فى الجيش الإسرائيلى وتراجع حاد فى دافع التضحية بالأرواح، وتنامى العوامل الطبقية والفرز الطبقى داخل الجيش، بحيث يتم إعفاء أبناء الأسر التى تنتمى إلى الطبقة الوسطى – العليا من الخدمة العسكرية، وإذا دخل أحدهم الجيش فيتم إبعاده عن الوحدات الخطرة. فهو يقول: "أصبح للشاب الإسرائيلى من الطبقة الوسطى فأعلى هامش خيار واسع وملموس فى قضية التطوع للجيش، وإن انضم للجيش فهو يختار أيضاً إن كان يريد الانضمام للوحدات التى ينطوى العمل فيها على مخاطرة بحياته".
مجتمع يتآكل من داخله، وجبهة داخلية هشة تتآكل من داخلها، وعزوف بل هروب من الخدمة العسكرية وتدنى مفهوم المواطنة والولاء ونزوح للخارج، ألا تعنى كلها أن زوال الكيان يمكن أن يتحول من إطار الأسطورة إلى الحقيقة، خاصة مع أفول وظيفته التاريخية بعجزه عن خدمة المصالح الأمريكية فى وقت بدأت فيه الولايات المتحدة نهج سياسة إنكماشية فى سياستها الخارجية خاصة فى إقليم الشرق الأوسط؟