سبقت أحداث 7 أكتوبر و"طوفان الأقصى" أربعة تطوّرات مهمة: أولها، أن الذكرى الثلاثين لتوقيع اتفاق أوسلو ترافقت مع انهيار النهج الذي راهن على حلّ وسط مع الحركة الصهيونية، عبر المفاوضات، وبنى آماله على وساطة أو تدخل أميركي ينقذ ما يُسمّى "حلّ الدولتين". تحطم ذلك النهج على صخرة العناد والتطرّف الإسرائيليين اللذين منعا أي لقاء تفاوضي، ولو شكلياً، خلال السنوات العشر الماضية، وأمعن في إلحاق الإهانات والتطاول على السلطة الفلسطينية.
وكان التطور الثاني انتصار تيار حسم الصراع في الحركة الصهيونية بتأثير صعود المستوطنين وحركة الاستيطان المتطرّفة في الضفة الغربية وسائر مناطق فلسطين وتحوّلها إلى قوة سياسية فاشية مؤثرة، بالتوازي مع صعود الفاشية الأصولية الدينية التي استولت على الأحزاب الدينية في إسرائيل.
أما التطور الثالث، فكان استخدام التطبيع مع المحيط العربي، وسيلة إسرائيلية – أميركية لتصفية القضية الفلسطينية بكل مكوّناتها، ولترويج إنشاء حلف عسكري إسرائيلي – عربي – أميركي، وجسّد مشروع اتفاقيات أبراهام الذي تبنّاه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب هذا التوجّه. وكان التطور الرابع، انغماس نتنياهو والمنظومة الإسرائيلية في أوهام التصفية إلى حدّ رفع نتنياهو، في الجمعية العامة للأمم المتحدة، خريطة إسرائيل الكبرى التي تضمّ الضفة الغربية وقطاع غزّة، والجولان المحتل، بالتوازي مع تولي الحكومة الفاشية مقاليد الأمور والبدء بنشاط استيطاني واسع وغير مسبوق في الضفة الغربية والقدس المحتلة.
وجاءت أحداث 7 أكتوبر ردّ فعل على كل هذه التطوّرات، لتعصف بها جميعاً، وتطيح بضربة واحدة أوهام الحركة الصهيونية، والحكومة الإسرائيلية العنصرية، بقرب تصفية قضية الشعب الفلسطيني برمّتها. وكان رد الفعل الإسرائيلي وحشياً بصورة جنونية، إذ شمل حتى اللحظة الانخراط في جرائم حرب متوازية، بما فيها الإبادة الجماعية، والعقوبات الجماعية إلى حد استخدام التجويع سلاح حرب، ومحاولة تنفيذ ثاني أكبر عملية تطهير عرقي، بعد النكبة، لسكان قطاع غزّة.
في يوم طوفان الأقصى، كانت إسرائيل هي جوليات المكسور في مواجهة داود الفلسطيني
عنف ردّ الفعل الإسرائيلي وحدّته اللامتناهية، عبّرا ليس فقط عن مشاعر (ونيّات) الانتقام البهيمية لمنظومة، ومجتمع، لم يعتد منذ تبلوره عام 1948 تلقّي هزائم، ولا خوض معارك متكافئة، بل مثّل أيضاً انعكاساً لدرجة تغلغل العنصرية المطلقة في صفوفه، وعمق تبنّيه أيديولوجية نفي الآخرين، وخصوصاً الفلسطينيين، بشراً واحتقاره قدراتهم، وذكاءهم، وآمالهم ومشاعرهم، وحقوقهم. ولكن عنف ردّ الفعل أظهر كذلك مدى عمق الشعور بالإحباط والهزيمة لدى القيادة والمنظومة الإسرائيلية بسبب تبخّر سراب اقترابها من لحظة حسم الصراع استراتيجياً، بالتصفية، والتطبيع، والاستيطان المنفلت من عقاله.
وتفاقمت حدّة العناد والعنف الوحشي ضد المدنيين الفلسطينيين، مع كل تطوّر جديد أظهر عودة القضية الفلسطينية إلى تصدّر المشهد السياسي العالمي، والنهوض العارم لحركات التضامن مع الشعب الفلسطيني التي لم يسبق لها مثيل منذ حركة مناهضة الحرب على فيتنام، والحملة العالمية لفرض العقوبات والمقاطعة على نظام الأبارتهايد والفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
ولعل أكثر ما آلم الحركة الصهيونية ووتّرها، انهيار الأسطورة التي صنعتها لنفسها، بأنها جبّارة كلية القدرة، وذات مناعة عصيّة على الكسر، منذ حرب حزيران (1967) أو ما سمّته انسجاماً مع الرواية التوراتية، "حرب الأيام الستة" عندما هزمت في أقلّ من أربعة أيام ثلاثة جيوش عربية، واحتلت مساحات من الأراضي تزيد على ضعفي مساحتها، وقدّمت إلى العالم الغربي الاستعماري نموذج "داود الصغير الماهر في مواجهة جوليات الجبار والفاشل".
هذه المرّة، وفي يوم طوفان الأقصى، كانت إسرائيل هي جوليات المكسور في مواجهة داود الفلسطيني. لكن تلك الأسطورة لم تكن الوحيدة التي انهارت في غضون الأشهر الماضية، بل انهارت أيضاً صورة إسرائيل الديمقراطية الوحيدة في "الشرق البدائي المتخلّف"، وعقدة "أخلاقية الجيش الإسرائيلي" التي تبدو مواصلة نتنياهو التبجّح بها مدعاة للسخرية وهو يتلوها وجيشه يقتل ما لا يقلّ عن سبعة عشر ألف طفل وعشرة آلاف امرأة فلسطينية بوحشية جنوده، وأسلحته الأميركية.
لم تكن إسرائيل، ومعها مؤيدوها في الولايات المتحدة، في حالة عزلة كما هي عليه اليوم، ولم ترَ في تاريخها هذا المستوى من التفتّت الداخلي
ومثل التمزّق الداخلي في المجتمع الإسرائيلي، على وقع فشل المخطّطات السياسية والعسكرية، ومظاهر انشقاق مجموعات يهودية في أوروبا والولايات المتحدة، عن المشروع الصهيوني، دوافع قلق عميقة واستفزازاً خطيراً لسلوك المنظومة الإسرائيلية التي خرجت عن طَورها مراراً وتكراراً بتعميق الالتفاف حول الأفكار، والأقوال، والشعارات ذات المضمون الفاشي والعنصري الخطير، والانعزالية المرضية إلى درجة وصف بعض حلفائهم باللاسامية. ولكن الانهيارات لم تقتصر على المشهد الإسرائيلي بكل مكوّناته، بل تعدّتها إلى إشارات مؤلمة، ومخيّبة للآمال لضعف الموقف الرسمي العربي والإسلامي في مقابل التأييد العربي والإسلامي الشعبي الجارف، وبسبب استمرار بعض الدول العربية في التطبيع مع إسرائيل رغم خرق الأخيرة القوانين الدولية، وتنكّرها لقرارات المحاكم الدولية.
شكّل قرار المدّعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، كريم خان، توجيه الاتهام رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو والوزير غالانت بارتكاب جرائم الحرب، وقرارات محكمة العدل الدولية بالاشتباه بارتكاب إسرائيل للإبادة الجماعية انعطافاً مهماً جداً، وعزّزه أمر محكمة العدل الدولية بوقف الحرب الإسرائيلية على رفح وطلب إدخال المساعدات الإنسانية وضرورة سماح إسرائيل للجنة التحقيق في جريمة الإبادة الجماعية بالعمل، وهي جميعها أوامر سترفضها إسرائيل، لكنها صارت تمهد لشبكة عالمية واسعة لاستدعاء فرض العقوبات والمقاطعة على إسرائيل.
لم تكن إسرائيل، ومعها مؤيدوها في الولايات المتحدة، في حالة عزلة كما هي عليه اليوم، ولم ترَ في تاريخها هذا المستوى من التفتّت الداخلي، وضعف المناعة. ... إنها مرحلة انهيار الأسطورة وتبخّر الأوهام.