تعيش القضية الفلسطينية هذه الأيام إحدى الذكريات المفصلية في فصولها ومراحلها المستمرة، إذ تعتبر ذكرى المبعدين إلى مرج الزهور، المرحلة الحاسمة بين أن ينجح الاحتلال في إفراغ الشارع الفلسطيني من كوادره وقياداته إبان الانتفاضة الفلسطينية الأولى، أو يفشل من تحقيق هدفه الذي سعى إليه جاهدا وهو "ترانسفير النخبة".
أي أن الاحتلال أراد من إبعاد 417 شخصية نخبوية قيادية، من إفراغ الشارع الفلسطيني، من الدعاة والموجهين والمفكرين والقادة والعلماء، وتهجيرهم إلى الأبد، غير أنه اعتقد بأنه نجاحه في إبعاد الخطر المحدق الذي كانت تمثله منظمة التحرير في بيروت وتشتيت عناصرها، يمكن تحقيقه مرة أخرى والقضاء على الانتفاضة الفلسطينية كما قضى على الثورة الفلسطينية في لبنان؛ وذلك من خلال إبعاد هؤلاء الشبان الذين يمثلون جذوة الصراع آنذاك.
جاء قرار الإبعاد في أواسط المؤسسة الصهيونية، بعد أن قامت كتائب القسام بخطف الجندي الإسرائيلي (نسيم توليدانو) وقتله بعد رفض الاحتلال الاستجابة لمطلب الكتائب، وهو إطلاق سراح الأسرى وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين. فاجتمعت حكومة الاحتلال بتاريخ 17 كانون الأول 1992، واتخذ قراراً بإبعاد 416 ناشطاً فلسطينياً من حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
وفي أعقاب اتخاذ القرار مباشرة وفي ذات اليوم، بدأت الباصات بنقل المبعدين إلى البوابة الشمالية لفلسطين المحتلة، وتحديدا المنطقة الحدودية مع لبنان.
قال القيادي في حركة الجهاد الإسلامي، وأحد المبعدين إلى مرج الزهور، رياض أبو صفية، أن بعد إنزالنا من الباصات، اتخذ المبعدين قرارا سريعا بالتمركز قبالة البوابة "الإسرائيلية"، حيث يطلق على هذه المنطقة "مرج الزهور"، فقمنا ببناء المخيم وأطلقنا عليه اسم "مخيم العودة"، تأكيدا على حقنا بالعودة، فكان هذا التحدي أولى قرارات إفشال المخطط الإسرائيلي من إبعادنا إلى الأبد.
وأضاف، أن الإبعاد كان مرحلة هامة في تاريخ القضية الفلسطينية، وأن بصمود وثبات المبعدين وتحمل مشقات الحياة في تلك المنطقة، أفشل سياسة "الترانسفير" التي اتبعها الاحتلال مذ أول لحظة دخل بها الأراضي المقدسة- فلسطين، مشيرا بأن لو أن الاحتلال حقق هدفه من إبعادنا، لأبعد بعد ذلك آلاف الفلسطينيين تحت بند "أنهم يشكلون خطرا على مشروعه الاستعماري الاستيطاني.
وأشار أبو صفية، بأن إبعادنا كان سيترتب عليه إبعاد عائلاتنا التي تركناها بالأراضي المحتلة، أي بذلك ليس فقط الهدف من إبعاد 416 شخص بل إبعاد 416 عائلة، وهنا نتحدث عن آلاف سيتركون منازلهم تباعا لأزواجهم وأبنائهم، لذلك كان قرارنا بالعودة حتمى، حتى لو بقينا مدة طويلة في هذه المنطقة الصعبة، إلا أنه يجب عودتنا إلى أهالينا وإلى فلسطين.
وبين، أن إبعاد نخبة العمل الإسلامي الوطني، كان الهدف أيضا هو إفراغ الشارع الفلسطيني، من كل من يحمل هذا الفكر المقاوم الانتفاضي، أي أن الأسماء التي أبعدت ليست أسماء عشوائية اختارها الاحتلال، بل أسماء لها تأثير داخل قراها ومدنها ومجتمعها بشكل أعم، لذلك هدفه كان بالقضاء على الدعاة والعلماء والمفكرين والسياسيين، وإفراغ الشارع لمن يحمل فكرة السلام المزعوم وفكرة الخيانة والتخلي عن فلسطين ومقدساتها.
حول حياة المخيم، وصف أبو صفية، بأنه كان أشبه بدويلة صغيرة، فيه لجان قائمة بمسؤولياتها ولخدمة المخيم والخدمة الأساسية وهي العمل على العودة، فكانت اللجنة الإعلامية التي كان يترأسها الشهيد د. عبد العزيز الرنتيسي المتحدث باسم المبعدين باللغة العربية والدكتور عزيز دويك المتحدث باللغة الإنجليزية، وكانت مهمة هذه اللجنة الحديث مع وسائل الإعلام العربية والعالمية، وهناك أيضا اللجنة المالية واللجنة الاجتماعية واللجنة الرياضية ولجنة الدعوة وغيرها من اللجان الفاعلة.
وأضاف أن المبعدين، قاموا بتأسيس جامعة تضم مختلف العلوم وأطلقوا عليها اسم "جامعة ابن تيمية"، وكان هناك دورات التجويد وحفظ القرآن ودورات الكاراتيه والخط والخطابة ودورات باللغة الإنجليزية وغيرها الكثير من الخبرات والعلوم التي تم تلقينها أثناء فترة الإبعاد والتي ساهمت بإكسابهم العديد من المهارات والعلوم الدينية والدنيوية.
وأكد على إن رحلة الإبعاد عادت عليهم بالمعرفة والخبرة العملية والعلمية وأيضا التنظيمية على عكس ما أراد الاحتلال.
وأردف، أن طول فترة الإبعاد كانت تقام العديد من المسيرات والمظاهرات المطالبة بالعودة، لافتا إلى أنه في إحدى المرات لبسوا الأكفان البيضاء وذهبوا إلى معبر (زمريا) الحدودي، وهنا كان القرار هو العودة أو الشهادة على حدوده حيث أطلق علينا من قبل جنود العدو الرصاص والقذائف على الصخور في الجبال وأصيب العديد من المبعدين من شظايا القذائف مما استدعى أخذ القرار بالعودة للمخيم.
وختم أن الاحتلال كان يراهن على قبول المبعدين بالأمر الواقع وحاول فرضه بأكثر من أسلوب، إلا أن قرار المبعدين بالعودة نجح في كسر قرار الإبعاد ووأد هذه السياسة في مهدها، فوافق الاحتلال في سبتمبر عام 1993م على عودة 189 مبعدًا إلى ديارهم، فيما عاد الباقون في ديسمبر من العام نفسه.
وبدوره، أضاف الأسير المحرر وأحد مبعدي مرج الزهور، الشيخ جمال حمامرة، أن في ليلة 14/12/1992، تم تجميع المبعدين من كل المناطق، وكان يجب تنفيذ الإبعاد في صبيحة اليوم التالي، إلا أن ما تسمى "حركة السلام الآن" رفعت قضية للمحكمة العليا ضد قرار الإبعاد، فتم تجميد القرار، وبقي المبعدين في الباصات مدة 36 ساعة بظروف صعبة، إلا أن الحكومة الإسرائيلية أعادت اتخاذ القرار وتنفيذه في صباح يوم 17/12/1992، وتم نقل المبعدين من الباصات إلى شاحنات لبنانية، غير أن المبعدين لم يعلموا ماذا يحدث.
وأشار إلى أن بعد وصول الشاحنات اللبنانية إلى حاجز لبناني، نزل بعض المبعدين للحديث مع الضابط الذي يقف على الحاجز والذي بدوره أخبرهم بأنهم تم إبعادهم إضافة إلى 417 آخرين، فقرر المبعدين آنذاك بأن يعودوا إلى الحدود الفلسطينية، وطلبوا من الضابط اللبناني بأن يطلق القنابل والرصاص اتجاه البعدين وأن يستخدم القوة لفرض عودتنا. وبالفعل تم إعادة الشاحنات إلى حاجز "زمريا" وهناك أنزلنا جيش الاحتلال وقام بطردنا اتجاه الحدود اللبنانية مستخدما الرصاص والترويع.
وأضاف، أن في تلك اللحظات تشكلت قيادة موحدة من حركتي حماس والجهاد لإفشال مخطط الإبعاد، فكان من حركة الجهاد
الشيخ عبدالله الشامي والدكتور طاهر اللولو وأ.خالد ابوسمره، أما من حركة حماس فكان الشهيد د.عبد العزيز الرنتيسي وأ. محمود الزهار وجمال منصور.
ولفت إلى أن هذه القيادة بدأت بالمنادة على المبعدين بأن يجلسوا مكانهم، وبالفعل تم الجلوس على الثلج المتراكم آنذاك.
وأوضح أن من أسباب نجاح هذه القيادة والنجاح بتحقيق عودة المبعدين، هو أن المبعدين جميعا أطاعوا أمر القيادة بكل ما كانت تطلبه منهم.
وأشار إلى أن في خطبة الجمعة أعلن الرنتيسى عن تشكيل القيادة المشتركة وأن الجميع يرفض الدخول الى لبنان واننا سنبقى هنا الى ان نعود، غير أنه طالب من الحكومة اللبنانية بأن ترفع شكوى إلى الأمم المتحدة.
وبين حمامرة، أن قرار الحكومة كان منسجما مع إرادة المبعدين وبالفعل تم رفع شكوى إلى الأمم المتحدة، وصدر قرار 779 الذي ينص على العودة الفورية.
ولفت إلى بأتخاذ هذا القرار، فُضحت نوايا الاحتلال وأصبح بمثابة تصريح للدول التي تساند المبعدين بحقهم بالعودة، وفرض القرار أيضا على إحراج الوفد الفلسطيني والسوري لوقف التفاوض مع الاحتلال، وكان شرطهم لا مفاوضات إلا بعودة المبعدين.
وأكد أن الدعم الذي كان يصل مخيم العودة، ودعم المبعدين بالملابس وكل ما يحتاجونه عن طريق "إيران" أدى إلى صمود المبعدين.
وختم أن أمام صمود المبعدين على قرار العودة ورفض أي بديل حيث طرحت العديد من البدائل، إذ أن في كل مرة كان الاحتلال يتنازل، وصولا لتنفيذ قرار العودة، وتم الاتفاق على عودة البعدين على دفعتين.
ومن جهته، أضاف حسين مشارقة أحد مبعدي مرج الزهور، أن خطوة الإبعاد كانت مرتجلة من قادة الاحتلال التي أربكتها يد المقاومة، حيث شعرت بإهانة كبيرة، أمام العمليات التي نفذتها مجموعة عشاق الشهادة بقيادة عصام براهمة، وعميلة خطف الجندي الإسرائيلي على يد كتائب القسام ومن ثم قتله، لذل ك شعر رابين الذي كان رئيسا للوزراء بالذل والهزيمة، فقام بتهديده المشهور "سنفعل مالم يتوقعه أحد في العالم".
وأشار مشارقة إلى أن هذه الأحداث شكلت تطورا نوعيا في المقاومة بلونها الإسلامي، وطن رابين بأن بهذه الخطوة وهي الإبعاد يوقف هذا الصعود المقاوم الإسلامي ويقضي على حجم الانتفاضة، ولكنها جاءت النتائج عكسية على قادة الاحتلال.
وأوضح أن الإبعاد فتح آفاق إتصال عالمية للحركة الإسلامية في فلسطين مع كافة مكونات والوان قوى المقاومة في العالم، إضافة إلى فتح آفاق إعلامية وفضاء واسع لإيصال رسالة المقاومة والانتفاضة.
وأشار إلى أن الإبعاد أتاح فرصة لقيادة وكوادر حركتي الجهاد وحماس، للتواصل مع العالم وتطوير قدراتهم، ورفع المستوى والوعي السياسي والفكري. وكذلك إضافة إلى إتاح فرصة للتواصل مع قوى وفعاليات شعبية مقاومة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وإيصال رسالة المقاومة الفلسطينية.
وأكد على أن الإبعاد أعطى فرصة لإطلاع العالم وقواه الحية على مظلومية الشعب الفلسطينية، فتواصلت مع قوى وأحزاب يسارية في أوروبا وأمريكا اللاتينية، وجنوب أفريقيا.
فشل الاحتلال بالمحصلة النهائية بقرار الإبعاد، وهذا الفشل أيضا أفضى فشلا آخر للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية، حيث أتاح الإبعاد إلى تشكيل قيادات جديدة لحركتي الجهاد وحماس، إضافة تدريب عناصر أخرى على القيادة المستقبلية للحركتي، فكان هذا القرار الذي ندم عليه قادة الاحتلال، مفتاحا أخر بأيدي كوادر وقيادات حركتي الجهاد وحماس لاستعطاف العالم مع مظلومية الشعب الفلسطيني، وأن المقاومة واجبة تجاه من يقتل ويبطش ويفرق العائلات عن بعضها البعض من خلال اتخاذ قرارات ظالمة وقاهرة.
كما أن حكومة الاحتلال أرادت من عملية الإبعاد إيقاف المقاومة وإضعاف الحركة الإسلامية بإبعاد رجالاتها، إلا أن الإبعاد حولت المحنة إلى منحة زادت من رصيد الحركة الإسلامية الفلسطينية المقاومة، وزادت أيضا من طرق ووسائل دعم هذه المقاومة، وفي المقابل فضح الاحتلال.