معين الطاهر
مات حلّ الدولتين في فلسطين منذ زمن بعيد، بل لم تكن له أدنى فرصة في الحياة منذ بداية الحديث عنه، لتعارضه مع تاريخ الشعب الفلسطيني وحقّه في أرضه، وتناقضه الجذري مع المشروع الصهيوني، باعتباره استعماراً استيطانياً إحلالياً، يهدف إلى طرد الفلسطينيين وتهجيرهم، وإحلال اليهود محلهم. احتُجز حلّ الدولتين في ثلاجة الموتى، بعدما وُضع أعواماً طويلةً على أجهزة التنفس بلا جدوى. ليس صحيحاً أنّ صفقة ترامب – نتنياهو، المعروفة بصفقة القرن، هي التي أنهت حل الدولتين، ذلك أنّ جثمانه كان قد شُيّع ودُفن منذ عام 2002 في مقبرة خريطة الطريق ودهاليز الرباعية الدولية التي أعلنت عقب خطاب الرئيس جورج بوش الابن الذي تحوّل إلى خريطة للطريق، في إعادة إنتاج اتفاق أوسلو بنسخةٍ أسوأ من السابق. وفي طريقها، غيّرت ملامح السلطة الفلسطينية ووظيفتها شكلاً وموضوعاً، وجعلت من إمكانية قيام دولة فلسطينية، بجانب إسرائيل، أمراً غير قابل للتحقيق، ووضعت السلطة الفلسطينية تحت وصاية الرباعية الدولية، ومنحتها وحدها صلاحية الحكم على أدائها، ووفائها بالتزاماتها، وتقرير ما إذا كانت مؤهلة للانتقال من مرحلة إلى أخرى على طريق إقامة دولة فلسطينية مجهولة المعالم "ذات حدود مؤقته"، و"ذات سمات سيادية"، وهو ما لم يتحقق، على الرغم من إعلانها، في حينه، عن جدول زمني ينتهي في غضون ثلاثة أعوام، ابتداء من تسليم وزارة الخارجية الأميركية النص الرسمي لخريطة الطريق، بعد نقاش عدة مسوّدات تم تعديلها لإرضاء الجانب الإسرائيلي، إلى المسؤولين الفلسطينيين والإسرائيليين، بتاريخ 30 إبريل/ نيسان 2003، وادّعائها أنّ الخريطة تستهدف تسوية نهائية وشاملة للنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني بحلول عام 2005. مع الإشارة إلى أنّ "عدم الامتثال للالتزامات سيعيق التقدم" وهو ما ظلّ سيفاً مسلطاً على رأس السلطة الفلسطينية وأداة ابتزاز دائمة.
تفسّر نظرة سريعة على بنود خريطة الطريق، بوضوح، مجريات الحوادث خلال الأعوام الفائتة، وتصرّفات القيادتين الفلسطينية والإسرائيلية، وكيف ساهمت الرباعية الدولية وخريطة الطريق في إنهاء أيّ توقع بقرب حلّ الدولتين، وعمّقت الانقسام الفلسطيني الداخلي، وحوّلت وظيفة السلطة الفلسطينية إلى حماية الاحتلال، وأدّت إلى ابتلاع مزيد من الأرض الفلسطينية. بل الأدهى أنّ السطور الأولى لخريطة الطريق تنصّ على أنّه لن يتم تحقيق الحلّ الدائم، القائم على أساس دولتين، إلّا "عندما تصبح لدى الشعب الفلسطيني قيادة تتصرّف بحسم ضد الإرهاب". وفقط عند توفر "مثل هذه القيادة، والمؤسسات المدنية والهيكليات الأمنية التي تم إصلاحها، سيحصل الفلسطينيون على دعم نشط من الرباعية" (الدولية). ألم يشكّل هذا ضوءاً أخضرَ لاستبدال ياسر عرفات والتخلص منه وتصفيته؟ بل إنه يفسّر أيضاً لماذا تم إنهاء خدمات آلاف من ضباط وجنود الأجهزة الأمنية والمؤسسات المدنية الذين خدموا في عهد عرفات، وشارك كثيرون منهم في الانتفاضة الثانية، لتجري إحالتهم إلى التقاعد المبكر في عهد الرئيس محمود عباس.
في المرحلة الأولى من الخريطة، يتعهد الفلسطينيون بوقفٍ غير مشروطٍ للعنف (الانتفاضة الثانية)، واستئناف التعاون الأمني وفق خطة مدير المخابرات الأميركية جورج تينيت، وإنهاء الإرهاب والتحريض، من خلال أجهزة أمنية فاعلة يُعاد تنظيمها. "وتباشر جهوداً واضحة على الأرض لاعتقال الأشخاص والمجموعات التي تقوم بتنفيذ أو التخطيط لهجمات عنيفة ضد الإسرائيليين في أيّ مكان" وتعطيل نشاطهم وتقييده، وتبدأ أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية التي أُعيد تشكيلها "بعملياتٍ مستديمة، مستهدفة، وفعّالة، تهدف إلى مواجهة كل الذين يتعاطون الإرهاب، وتفكيك القدرات والبنية التحتية الإرهابية، ويشمل هذا الشروع في مصادرة الأسلحة غير المشروعة، وتعزيز سلطة أمنية خالية من أي علاقة بالإرهاب". ألم تكن هذه خطة الجنرال الأميركي كيث دايتون لإعادة تنظيم الأجهزة الأمنية الفلسطينية وتأهيلها، وتحويل تنسيقها الأمني مع المحتل إلى عقيدة، وتركيز جهودها لإجهاض أي نشاطات مقاومة وملاحقتها، وتصفية أي بنيةٍ تحتيةٍ قد تنجح في بنائها؟ وألا يشكّل اتباع هذا النهج وصفة لاستمرار الانقسام الفلسطيني الذي تعزّز خريطة الطريق وضعه، باعتباره انقساماً سياسياً بين مشروعين متناقضين جذرياً؟
في خريطة الطريق، ثمّة شروطٌ واضحةٌ على الطرف الفلسطيني التزامها كي يصبح شريكاً في المفاوضات. ويتم التلويح للجانب الفلسطيني بتلك الجزرة المسمّاة دولة، والتي عليه أن يظلّ يلهث خلفها ولا يدركها. ومن الجدير بالذكر أنّ الجانب الإسرائيلي لا اعتراض له على مسمّى الدولة، وكذلك كان موقف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. لكنّ الاعتراض الحقيقي هو على مضمون هذه الدولة وحدودها وسيادتها واستقلالها ووظيفتها، وهو ما مهّدت له خريطة الطريق بجعل الإسرائيليين حكماً على ممارسات الجانب الفلسطيني، وتنصيبهم قيّماً عليه.
تفسّر خريطة الطريق أيضاً سبب تمسّك السلطة الفلسطينية بسياسة التنسيق الأمني، فقد جعلت هذه السياسة وظيفة السلطة الرئيسة، وسبب بقائها، ومن غيرها لن توجد سلطة فلسطينية أو تستمر. كما تفسّر سبب تمسك قيادات السلطة بوجوب التزام أي طرفٍ فلسطيني يرغب بالانضمام إلى الحكومة بشروط الرباعية الدولية، وهو ما سمعناه مراراً وتكراراً على لسان الرئيس محمود عبّاس، ما يعني عدم قدرته على التخلص من هذه الاشتراطات، وعدم قدرة السلطة الفلسطينية على تشكيل حكومة وحدةٍ وطنية، أو إنهاء الانقسام، أو حتى إدارته بالحد الأدنى، ما دامت خريطة الطريق ورقابة الرباعية الدولية سيفاً مسلطاً على رقبتها.
بعد عشرين عاماً على إعلان خريطة الطريق، بانت نتائجها؛ تغوّل الاستيطان، ورَفْضُ الإسرائيليين أي عملية سياسية، ورفض الحكومة الإسرائيلية فكرة دولة فلسطينية، وسيطرة إسرائيلية كاملة على حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية، واستمرار الحصار على غزّة، ووضع الشعب الفلسطيني بأسره تحت ظل احتلالٍ رخيص الثمن، يمارس أبشع أنواع الأبارتهايد والتمييز العنصري، وتحوّل وظيفة السلطة الفلسطينية إلى حماية الاحتلال، وضمان أمنه وبقائه، ومطاردة المقاومين له، وتطبيع أنظمة عربية مع العدو. أنهت خريطة الطريق الأمل الذي راود من سار على درب اتفاق أوسلو بالحصول على حدٍّ أدنى من حكم ذاتي محدود يتمتع ببعض مقوّمات السيادة والاستقلال، فجاءت خطوةٌ إلى الخلف عن اتفاق أوسلو سيئ الصيت والسمعة، ودفنت ما سُمي وهماً حلّ الدولتين في مقبرتها، قبل أن يبني لها دونالد ترامب ضريحاً فوق القبر في صفقته المشؤومة، في حين بدا واضحاً أنّ قيادة السلطة الفلسطينية لم تعد تقيم وزناً لسيف الزمن الذي يقطع في كلّ يوم يمر جزءاً جديداً من الوطن الفلسطيني. في اتفاق أوسلو، حدّدت الفترة الانتقالية بخمسة أعوام، كان مفترضاً أن تنتهي في عام 1998. وفي خريطة الطريق حدّدت فترتها بثلاثة أعوام تنتهي في عام 2005. وفي الحالتين، تم ترحيل كلّ القضايا، من الأرض، إلى القدس، إلى اللاجئين، والحدود، والسيادة، والمستوطنات، والأسرى، إلى مرحلة أطلق عليها الحلّ النهائي، لم يصل إليها المفاوضون. وانتهينا إلى أنّ المفاوضات ذاتها أصبحت مطلباً فلسطينياً يرفضه الإسرائيليون. ما تم حسمه والخلاص منه كان الانتفاضة الأولى في اتفاق أوسلو، والانتفاضة الثانية في خريطة الطريق.
وبمرور الزمن، بات واضحاً أنّ طريق الخلاص يبدأ بالتحرر من اتفاق أوسلو وما تلاه من خريطة الطريق واشتراطات الرباعية الدولية، والاستمرار في النضال ضد الاحتلال بأشكاله كلّها.