تواصل أسعار الطاقة في أوروبا الارتفاع هذا العام، متسببة في صداع مزمن للحكومات ومن ورائها الشعوب التي تتحمل في النهاية الفاتورة، والأكثر إثارة للقلق أنه في ظل انتعاش الاقتصاد من المرجح أن تستمر الأسعار بالنمو.
منذ بداية سبتمبر/ أيلول الجاري، ارتفعت أسعار الجملة للكهرباء في ألمانيا وفرنسا بنسبة 36% و48% على التوالي، وتحوم حاليا حول 160 يورو (189 دولارا) لكل ميغا واط/ ساعة، وهو مستوى قياسي، بحسب "تقرير لمجلة الإيكونوميست".
ظلام دامس يتنظر أوروبا... هل تكون روسيا مفتاح أزمة الطاقة في القارة العجوز؟
أما في بريطانيا، وصلت الأسعار إلى 385 جنيها إسترلينيا (532 دولارا)، ارتفاعا من 147 جنيها إسترلينيا قبل أسابيع قليلة، وهو مستوى مرتفع للغاية كما يبدو، إذ يعادل أضعاف السعر المسجل في ألمانيا وفرنسا، فما الذي يفسر زيادة الأسعار بهذه الطريقة؟
المشكلة الأزلية (إمدادات الغاز)
تتمثل إحدى المشكلات في إمدادات الغاز الطبيعي، الذي يستخدم لتوليد نحو خمس الكهرباء في أوروبا، حيث ارتفعت أسعاره مع نقص المعروض، وبالتالي زادت أسعار الكهرباء.
يأتي تقريبا ثلث الإمدادات الأوروبية من روسيا؛ والخُمس يأتي من النرويج، وعانى كلا البلدين من اضطرابات، مثل حريق في منشأة للمعالجة في سيبيريا، مما تسبب في انخفاض الإمدادات عن المتوقع.
تواصل روسيا بالفعل تزويد البلدين بالمزيد من الغاز، في إشارة على عزمها تلبية الطلب المتنامي وبخلاف الادعاء القائل بأنها قد ترفع الأسعار عن طريق الحد من الإمدادات.
ووفقا للبيانات المتاحة، سلمت شركة "غازبروم" الروسية 20.3 مليار متر مكعب من الغاز إلى تركيا في الفترة من 1 يناير/ كانون الثاني إلى 19 سبتمبر/ أيلول 2021، وهو أعلى مستوى على الإطلاق لهذه الفترة.
وقالت "غازبروم"، يوم الجمعة، إنها تصدر الغاز إلى السوق الأوروبي بالامتثال الكامل للالتزامات التعاقدية، وتسعى جاهدة أيضا لتلبية الطلبات بإمدادات إضافية - بحسب الإمكانيات المتاحة.
هل ينهار تحالف القوى الغربية العظمى داخل مجلس الأمن؟
ممثلة وزارة الطاقة في ألمانيا، سوزان أونغراد ردت على تكهنات وسائل إعلام حول التكلفة القياسية للطاقة، وادعاءات بعض السياسيين والمحللين، بتعمد موسكو وشركة "غازبروم" التأثير على السوق من أجل تسريع تشغيل خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2".
وقالت أونغراد، إن هناك العديد من العوامل التي تؤثر على الأسعار كالشتاء القاسي وتغيرات السوق وزيادة الطلب على الغاز، وتغيرات السوق في آسيا، والحرائق في سيبيريا، مضيفة: "وفقا لمعلوماتنا، روسيا تنفذ اتفاقيات التوريد الحالية. ولا يوجد لدينا معلومات عن تجاهل متعمد للعقود القائمة".
يتطلع المشترون الأوروبيون، مثل شركات الغاز الوطنية، إلى سوق الغاز الطبيعي المسال لتعويض النقص، لكن كان عليهم التنافس مع المشترين في الصين واليابان، حيث يتزايد الطلب على الغاز الطبيعي المسال.
في الفترة بين يناير/ كانون الثاني ويوليو/ تموز، كانت واردات الغاز الطبيعي المسال الموردة إلى أوروبا أقل بنسبة 15% من حجم العام الماضي، وفقا لغراهام فريدمان، المحلل لدى شركة الاستشارات والأبحاث العالمية "وود ماكينزي".
فيما يقول محمد الصبان، المستشار الاقتصادي والنفطي الدولي في تصريحات لوكالة "سبوتنيك"، إن ارتفاع أسعار الغاز خلال الفترة القادمة سيستمر، ويرجع ذلك إلى أن هناك هجمة كبيرة على الوقود الإحفوري بحجة تغير المناخ.
علاوة على ذلك، عانت أوروبا شتاء باردا وطويلا استهلك مخزوناتها، والتي انخفضت الآن بنسب 25% من متوسطهم على المدى الطويل.
البديل القديم
عادة ما تستجيب المنشآت الأوروبية لأسعار الغاز المرتفعة باستخدام المزيد من الفحم، لكن حتى سعر الفحم وصل أيضا إلى مستويات قياسية على خلفية الطلب الصيني على الكهرباء وضعف الإنتاج.
خطة لبناء أطول شبكة نقل كهرباء في العالم بين بريطانيا ودولة عربية
وبلغت تكلفة تصاريح الكربون الأوروبية مستويات قياسية أيضا، وهي تصاريح تعطي صاحبها الحق في كمية من انبعاث الغازات الدفيئة، ولأن حرق الفحم يسبب انبعاثات أكثر من حرق الغاز الطبيعي، فإن تصاريح الكربون باهظة الثمن وتزيد السعر النهائي لاستخدامه.
البديل الجديد
عامل آخر وراء ارتفاع أسعار الطاقة في أوروباء هو طاقة الرياح، وتحديدا بسبب عدم توافرها، إذ تعتمد القارة العجوز على هذا المصدر لتوليد عُشر طاقتها. في بعض البلدان، بما في ذلك ألمانيا وبريطانيا، يشكل ضعفي هذا المستوى.
في الآونة الأخيرة، كانت الرياح ساكنة بشكل غير معتاد، وفي ألمانيا، على سبيل المثال، خلال الأسبوعين الأولين من شهر سبتمبر، كان توليد طاقة الرياح أقل بنسبة 50% من متوسط الخمس سنوات، وفقا لشركة الأبحاث "آي سي آي إس".
وضع خاص (بريطانيا)
تتجلى أسعار الطاقة العالية بشكل أكثر وضوحا في بريطانيا، لأنها تعتمد بشكل خاص على الغاز والرياح، إذ يولد المصدران 60% تقريبا من الكهرباء البريطانية، أي ضعفي المتوسط الأوروبي.
عامل آخر هو أن بريطانيا أقل ارتباطا من جيرانها بالشبكة الأوروبية، والتي تساعد في نشر العرض والطلب على الكهرباء عبر القارة وبالتالي يجعل الأسعار أقل تقلبا. تفاقمت هذه المشكلة عندما تم إغلاق خط نقل للكهرباء بين بريطانيا وفرنسا بسبب حريق.
لعل هذا الوضع الخاص، يفسر لماذا تخطط بريطانيا لبناء ما يمكن أن يكون أطول رابط طاقة في العالم لنقل إمدادات إضافية من الكهرباء إلى المملكة المتحدة عبر مصادر متجددة في المغرب العربي.
هل تستمر أسعار الغاز المسال في الارتفاع عالميا؟... خبراء يجيبون
كشفت شركة "إكس لينكس"، يوم الأحد، عن خطط لبناء مشروع تحت البحر تبلغ تكلفته 16 مليار جنيه إسترليني (21.9 مليار دولار) ويغطي مسافة 3800 كيلومتر (2360 ميلا) بين بريطانيا والمغرب، حسبما نقلت وكالة "بلومبيرغ".
سوف ينقل الرابط الطاقة من 10.5 غيغاواط تولدها مزارع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح على نطاق واسع في المغرب، وعلى عكس الروابط الأخرى في المملكة المتحدة، فإنها ستزود بريطانيا فقط.
يُنظر إلى هذه الروابط على أنها حيوية للوصول إلى الطاقة من البلدان ذات الموارد المختلفة، وتخطط المملكة المتحدة لمضاعفة قدرتها على الربط الكهربائي ثلاث مرات بحلول عام 2030.
هل تنفرج الأزمة قريبا؟
نشرت شبكة "سكاي نيوز" البريطانية، تقريرا مطولا أكدت من خلاله أن بريطانيا تشهد حاليا أزمة كبيرة نتيجة ارتفاع أسعار الغاز في السوق المحلي، مؤكدة أن الأزمة توشك أن تضرب غالبية الأسر، بعد أن هددت صغار المورّدين المحليين.
وحذر وزير الأعمال والمشروعات الصغيرة البريطاني بول سكالي المواطنين من "الشراء بدافع الذعر" حيث أدت الزيادات الحادة في أسعار الغاز الطبيعي ونقص العمالة في إنتاج الغذاء والصناعات الأخرى إلى إثارة مخاوف من أزمة اقتصادية مقبلة على البلاد.
وأضاف: "هذا ليس شيئا من أزمة السبعينيات على الإطلاق"، في إشارة إلى شتاء 1978 إلى 1979 في بريطانيا عندما كان تسبب التضخم ومشاكل الصناعة في أزمة اقتصادية في البلاد.
يتوقع المحللون أن تظل الأسعار مرتفعة طوال فصل الشتاء، عندما يبلغ الطلب على التدفئة والطاقة ذروته، وهذه أخبار سيئة للمستهلكين الأوروبيين، الذين سيتحملون الكثير من التكلفة.
تحاول بعض الدول بالفعل حمايتهم، وفي إسبانيا على سبيل المثال، أقر مجلس الوزراء إجراءات طارئة لوضع حد لسعر الغاز وأرباح شركات المرافق، فيما تراجع الحكومة الإيطالية كيفية احتساب فواتير الكهرباء.
لكن صانعي السياسات لن يكونوا قادرين على حماية المستهلكين من أشد التأثيرات تطرفا لنقص الغاز الطبيعي، حيث يعتقد بعض المحللين أن الشتاء البارد بشكل خاص يمكن أن يؤدي إلى انقطاع التيار الكهربائي، وقد تكون فواتير المرافق العامة أقل ما يقلق أوروبا.