بقلم / د. وليد القططي
نهاية شهر آب أغسطس الماضي عُقد لقاء بين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ووزير الحرب الإسرائيلي بيني غانتس، اللقاء حسب مصادر إسرائيلية بحث في الأوضاع الأمنية والاقتصادية في الضفة والقطاع، ومُخرجاته ذهبت باتجاه تحسين أمن الاحتلال، وتسهيلات تؤدي إلى تحسين مستوى المعيشة للمُحتلين، وكلا الجانبين يُساهمان في التعايش مع الاحتلال. وبعد هذا اللقاء بأيام حدثت عملية هروب الأسرى الستة الأبطال من سجن جلبوع الإسرائيلي المُحصّن، قبل أنْ يُعاد اعتقال أربعة منهم، وعملية انتزاع الحرية من فك السجّان أدت إلى اشتعال موجة المظاهرات الشعبية المُسانِدة للأسرى الستة وكل الأسرى الفلسطينيين في إطار مقاومة الاحتلال. وما بين مشهد التعايش مع الاحتلال الأول (اللقاء)، ومشهد مقاومة الاحتلال الثاني (المظاهرات)، كان موضوع فيلم (المعبر) للمخرج الفلسطيني الشاب بسام جرباوي، الذي يُناقش معضلة التعامل مع الاحتلال ما بين التعايش والمقاومة.
فيلم (المعبر) القصير عبارة عن مجموعة قصص إنسانية تتمحور حول المعبر المُقام على أراضي قرية نعلين على الجدار الفاصل بين الضفة الغربية والأرض المحتلة عام 1948م، والقصة المحورية في الفيلم تدور حول دكان بجانب المعبر تخدم العمال الفلسطينيين المارين باتجاه المعبر للعمل داخل (إسرائيل)، والمعبر يدخل منه المستوطنون اليهود باتجاه القرية لشراء السلع وإصلاح سياراتهم للاستفادة من فرق سعر السلع والخدمات في الضفة، ومشهد العمال والمستوطنين المارين من المعبر بالاتجاهين يقدمان نموذجاً آخر هو مقاومة الاحتلال من خلال مشاهد المظاهرات الأسبوعية في قرية نعلين ضد الاحتلال والاستيطان، مع صور الشهداء والجرحى والأسرى الذين يسقطون في المواجهات مع الجيش والمستوطنين. وما بين المشهدين تكثر صور شجر الصبّار في خلفية كل المشاهد، في إشارة إلى صبر الشعب الفلسطيني أمام معضلة تتطلب التوفيق بين ضغط الحصول على الخبز، وضغط الحصول على الحرية.
ضغط الحصول على الخبز ومتطلبات الحياة استغلها الكيان الصهيوني لدفع الشعب الفلسطيني نحو التعايش مع الاحتلال بعد النكبة في فلسطين المُحتلة عام 1948م. بعد أن استنفذ استراتيجية تفريغ الأرض من سكانها بموجب الخطة (دالت)، فطبق سياسة (الأسرلة) على من بقي صامداً في وطنه مُتشبثاً بتراب أرضه، ومن أهم ملامح تلك السياسة: فرض الجنسية الإسرائيلية على الفلسطينيين، وعزلهم عن عمقهم الفلسطيني والعربي والإسلامي، ومحاولة اصطناع هوية خاصة بهم تحت مُسمّى (عرب إسرائيل)، ودمجهم في المجتمع الإسرائيلي كمواطنين من درجات أدنى بدون المساواة في الحقوق، وتوظيف الأحزاب السياسية المشتركة في عملية الدمج والتعايش، وحرف نضالهم الوطني باتجاه المطالبة بالحقوق المدنية المطالبة بالمساواة والعدالة... ولكن سياسة الأسرلة لفرض التعايش مع الاحتلال لم تفلح في تغييب مشاهد مقاومة الاحتلال بشتى الطرق النضالية خاصة المظاهرات الشعبية لا سيما في يوم الأرض عام 1976م، والانتفاضة الأولى عام 1987م، والانتفاضة الثانية عام 2000م، وانتفاضة سيف القدس التي أنهت وهم الأسرلة المُجسّد في مصطلح (عرب إسرائيل).
وبعد احتلال بقية فلسطين عام 1967م، سعى الكيان الصهيوني إلى فرض التعايش مع الاحتلال في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان النموذج الأهم في جهود الاحتلال تجربة (روابط القرى)، فبعد رفض قيادة الشعب الفلسطيني الوطنية في الأرض المحتلة خطة الحكم الذاتي المنصوص عليها في اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني، عام 1978م، حاول الاحتلال إيجاد قيادة بديلة للشعب الفلسطيني غير مرتبطة بمنظمة التحرير الفلسطينية، تقبل بالحكم الذاتي كنموذج للتعايش مع الاحتلال والاستيطان، ووجد ضالته في وزير أردني سابق هو مصطفى دودين، الذي أنشأ رابطة قرى الخليل عام 1978م بإيعاز من الاحتلال، وامتدت روابط القرى إلى معظم المدن الفلسطينية في الضفة الغربية ، ثم جمعهم الاحتلال في إطار موّحد باسم (اتحاد روابط القرى) برئاسة كبيرهم مصطفى دودين، لتكون موازية للجنة التوجيه الوطني المشكلة من رؤساء البلديات الوطنيين المُنتخبين... ولكن مشهد المقاومة كان حاضراً لإسقاط تجربة روابط القرى التي تراجعت نتيجة لرفض المنظمة ومقاومة الشعب، تم تبخرت مع حرارة المقاومة الشعبية في الانتفاضة الأولى عام 1987م فتلاشت واندثرت ولذلك حاول إعطاء غطاء سياسي لروابط القرى بتشكيل حزب سياسي برئاسة محمد نصر باسم (الحركة الفلسطينية للديمقراطية والسلام).
اندثرت تجربة روابط القرى كإطار جماعي مُنظّم، ولكنها لم تندثر كفكرة وسياسة استراتيجية للاحتلال، وإذا كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد ساهمت في إسقاط تجربة روابط القرى للتعايش مع الاحتلال، فإنها نفسها قد استُدرِجت لتطبيق نفس الفكرة والسياسة، فبدأت بقبول فكرة تقاسم فلسطين مع مُحتليها الغاصبين لها من بوابة الشرعية الدولية، وانتهت بالتفاوض مع الاحتلال لتقاسم الضفة الغربية بين الفلسطينيين ومستوطنيها اليهود من بوابة الواقعية السياسية، تحت تأثير عوامل التعرية الوطنية والتآكل الثوري، وتطبيقاً لنظرية ثوار منتصف الطريق (البندقية تزرع والسياسة تحصد)، فزرع الفدائيون دمهم وعرقهم، وحصد السياسيون خيبتهم وفشلهم، حصدوا سلطة وطنية منزوعة السلطة والوطنية، لينتهي بها المطاف إلى نموذجٍ آخر للتعايش مع الاحتلال بجيشه ومستوطنيه... ولكن النموذج الأصل في التعامل مع الاحتلال، وهو المقاومة ظّل حافراً بقوة بعد سلطة أوسلو، في العمليات الفدائية، وفي الانتفاضات الشعبية، وفي المعارك العسكرية... وكل مشاهد المقاومة المُشرّفة في كل فلسطين.
المشاهد في فيلم المعبر والواقع الفلسطيني أصبحت واضحة: كيان صهيوني محتل يحاول فرض التعايش مع كيانه واحتلاله، على الشعب الفلسطيني الحُر الصامد المقاوم، ويحاول إعطائها غطاءً سياسياً بواسطة اتفاقية كامب ديفيد، وحزب روابط القرى، واتفاقية أوسلو، وتحت مُسميات جذابة مثل: السلام الاقتصادي الذي ابتكره شمعون بيريز، ودعا له بنيامين نتنياهو، وسلام من أجل الازدهار في صفقة القرن لدونالد ترامب. وفي الجانب الآخر شعب فلسطيني حر وصامد ومقاوم يرفض التعايش مع الاحتلال بمختلف صوره – الأسرلة والتهويد والاستيطان والحصار- ويدرك أن الخلاص يكون بالعمل على تحرير فلسطين وليس تقاسمها مع الغاصبين، والسعي إلى حياة بدون احتلال وليس تحسين الحياة تحت الاحتلال، والاستمرار في مقاومة الاحتلال وليس التعايش مع الاحتلال.