يبدي رئيس الحكومة الإسرائيلية نفتالي بينت، وبعد أقل من ثلاثة أشهر على توليه منصبه هذا، قدراً ملحوظاً من الاستخفاف بأهمية التوصل إلى حل سياسي مع الجانب الفلسطيني. وقد سارع إلى إبداء مؤشّرات عدة تظهر أنه "يربأ" بنفسه عن الخوض في هذه المسألة أو الانشغال بها، باعتبارها مسألة معيبة في الوعي الصهيوني الأشدّ يمينية، فقد نفى أنباء شحيحة عن إمكانية مشاركته في قمة ثلاثية مصرية أردنية فلسطينية، دعت إليها واستضافتها القاهرة، أول من أمس الخميس. وهي قمة عقدت لحث إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على التحرّك لإطلاق مفاوضات تقود إلى حل الدولتين. وقال بينت، في هذا الصدد، إن لقاء قمة سوف يجمعه قريبا بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. والمقصود بذلك أن بينت يولي اهتماما بالعلاقات الثنائية مع مصر وأي دولة عربية أخرى، بمعزل عن إحياء المسار السلمي.
قبل ذلك، كان بينت ومستشاروه قد صرّحوا في واشنطن، عشية لقاء جو بايدن وبينت، بأن سياسة الحكومة الحالية تقوم على "حفظ الاستقرار وإدامة الوضع القائم، وإنها غير معنية بإجراء مفاوضات مع الجانب الفلسطيني، لا حاليا ولا مستقبلا". وهي عبارات في غاية الوضوح، وتفسّر تركيز رئيس حكومة الاحتلال على إيران، وعلى جوانب من العلاقات الأميركية الإسرائيلية، بما في ذلك تجديد الدعم الأميركي للملف النووي الإسرائيلي، وإعفاء تل أبيب من الانضمام لمعاهدة حظر الأسلحة النووية، هذا من دون الاقتراب مما أعلنته واشنطن عن تأييدها حل الدولتين. وفي الاتجاه نفسه، نقلت مصادر إسرائيلية عن الأوساط الحكومية توبيخ بينت وزير الدفاع في حكومته بيني غانتس على لقائه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ومبعث اعتراضه سخاء غانتس في الوعود للرئيس عباس، ومن ذلك زيادة فرص لم الشمل للعائلات الفلسطينية. على أن الاعتراض الأهم يتّجه إلى رفض التعامل السياسي مع المستوى السياسي الفلسطيني، وهذا ما يسعى بينت إلى تفاديه بصورة تامة، والاستعاضة عنه ببحث الشؤون المدنية والاقتصادية، وبالطبع الأمنية، بين مسؤولين منخفضي المستوى من الجانبين. وفي ذلك، لا يفعل الرجل شيئا سوى استئناف سياسة سلفه بنيامين نتياهو في إغلاق الملف التفاوضي، وفي طرح مطلب إقامة دولة فلسطينية جانبا، ومحاولة تعويد كل من يعنيه الأمر على أن أجندة هذه الحكومة لا تشمل الانشغال بكسر الجمود، بل على العكس إدامته وتصليبه، تحت تسمية المحافظة على الاستقرار، وهو استقرار للاحتلال الاستيطاني، والعسكري حصرا، وليس للطرف الرازح تحت الاحتلال.
وبينما يعمل الرجل على تكريس سياسته هذه، وجعلها من الثوابت، فإنه في واقع الأمر يخلص بذلك لمواقفه ورؤاه القائمة على ابتلاع الضفة الغربية المحتلة بالقضم الواسع والمتنامي، وبزيادة الاستيطان باسم النمو الطبيعي (لا نمو طبيعيا لدى الفلسطينيين)، أو بزعم أن القدس الكبرى تحت سيادة الاحتلال. ولم يعرف عنه، وهو الذي سبق أن ترأس مجلسا للمستوطنات، وتفتّح وعيه في في بيئة أيديولوجية متطرّفة، وبين صفوف الليكود، على الرغم من خلافاته الشخصية مع نتنياهو، أنه انشغل بحلول سياسية أو بإقامة سلام، إذ يشمل مدى نظره مجتمعات المستوطنين وقطاعات الجيش والتيارات الواسعة المتدينة. أما البشر الآخرون المقيمون على أرضهم في الضفة الغربية المحتلة، فبالكاد يراهم ويلحظ وجودهم، ناهيك عن أن يعترف لهم بحقوق أساسية وسياسية. وفي تقديره، تتشكّل الأغلبية الصامتة الإسرائيلية من المتدينين والتيارات اليمينية التي تحجُب وسائل الإعلام أصواتهم.
ويروي تقرير لمجلة فورين بوليسي أن بينت (مواليد 1972)، ذهب عدة سنوات، خلال خدمته العسكرية، إلى العمل عاري الرأس، لكنه في 1995، عندما اغتيل رئيس الوزراء الأسبق، إسحق رابين، على يد متطرّف يهودي معارض لاتفاقات أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، عاد إلى ارتداء القلنسوة، لأنه رفض "رد الفعل العنيف على اغتيال رابين ضد جميع المتدينين". ومعنى ذلك أنه استخلص من تلك الواقعة ليس أن اليمين الديني يجنح إلى العنف الدموي ضد المكونات الأخرى، بل إن هذا اليمين مظلوم، إذ ارتفعت النقمة ضده في ذلك الحين، ما دعاه إلى التضامن مع غلاة المتشدّدين وارتداء القلنسوة منذ ذلك الحين. وبهذا، يتضح كيف أن هذا الرجل لا يجد نفسه سوى في أوساط المتطرّفين والغزاة المستوطنين، وأنه بالكاد يعرف عالما غير هذا العالم، فيما تُضفي نشأته في أميركا، وتحدر أسرته من هناك، مسحة "أميركية "عليه، توهم أنه يأخذ في الاعتبار واقع التعدّدية في كل مكان، فيما هو أحادي النظرة والتفكير.
ومما يسترعي الانتباه أن السياسة التي ما انفكّ يكشف عنها، لا تنال ما تستحقه من نقد وتخطئة، كونها لا تأتي بجديد، وتكرّس واقع السيطرة العسكرية والتمدّد الاستيطاني، وتغلق الأفق السياسي، بل على العكس، يشيع نوعا من التفاؤل في أوساط عربية بأن بينت ليس نتنياهو، وأننا أمام حكومة جديدة ائتلافية تضم مكونات يسارية، وأنه لا بد من فترة سماح للرجل، قبل أن يبلور خياراته، علما أن مركز الثقل في الحكومة هو لبينت وشركائه من اليمين، وأن الرجل ما زال على وفائه لتعهداته لجمهوره اليميني في بذل كل ما تملك يمينه لمنع إنشاء دولة فلسطينية، ففي رأيه أن إقامتها هي "نوع من الانتحار.. وقيام هذه الدولة يعني أن لا تقوم الدولة الإسرائيلية". ولا يتفوهّ اليمين الأشد تطرّفا بغير هذا، باستثناء أن بينت يسعى إلى تحسين الأحوال الاقتصادية للفلسطينين تحت الاحتلال، والحد من اصطدامهم بمظاهر الاحتلال عبر صيغة احتلال غير مرئي، ينشغل فيه أصحاب الأرض بحياتهم اليومية، ويتم التعامل مع السلطة الفلسطينية كإدارة بلدية أو ائتلاف بلديات، وليس كجسم سياسي أو قانوني يمثل شعبا قائما على أرضه.
من الواضح أن فترة السماح للرجل سوف تطول، وسوف يستغلّ من جانبه هذا القبول به والتعاون معه من أوساط عربية، كي يواصل الاستمرار بسياسته من غير ضجيج، وتفادي مواجهة المنابر الإعلامية، وتجنّب إطلاق تصريحات خشنة، إنما بتغيير المعالم على الأرض، وهو يصفها بأنها تقوم على مبدأ: لا ضم ولا دولة فلسطينية. أما الامتناع المزعوم عن الضم فتتم الاستعاضة عنه بضم واقعي وفعلي، بتعزيز السيطرة العسكرية والاستيطانية ومصادرة مزيد من الأراضي ومصادر المياه، فما أشبه اليوم بالبارحة.