سعاده مصطفى أرشيد*
يمرّ الوضع الفلسطيني بحالة متأزمة تزداد يوماً إثر يوم وذلك منذ أيار الماضي حين تمّ تأجيل الانتخابات التشريعية، وذهبت مع ذلك التأجيل الآمال بإمكانية إقامة نظام فلسطيني جديد ولو بطريقة الحدّ الأدنى المتوافق عليه من الأغلبية وليحلّ محلّ النظام الفلسطيني الحالي والذي تقادم عليه الزمن، هذا التأزم دفع (بالإسرائيلي) للظنّ أنّ بإمكانه استغلال فرصة الخلاف الفلسطيني ـ الفلسطيني، وما أحدثته من عدم استقرار داخلي بسبب تأجيل الانتخابات، وذلك بالإقدام على مزيد من إجراءات الضمّ والتهويد والمصادرة والتوسع الاستيطاني، كذلك للهجوم على القدس بدءا من باب دمشق (باب العمود)، ثم حي الشيخ جراح، وانتهاء بتقاسم زماني ومكاني للمسجد الأقصى، المقدسيون ومعهم هبة فلسطينية شاملة، اشتبكت مع (الإسرائيلي) فيما لم يكن أداء السلطة الفلسطينية فاعلاً ومؤثراً، فاستغلّ خصومها هذه الحالة الجماهيرية لرفع مستوى حضورهم لا في الضفة والقدس فحسب، وإنما كحالة قومية ـ وطنية ـ دينية مؤثرة شعبياً على المستوى الإقليمي.
اتكاء على القدس كعنوان، وللدفاع عنها، ولحاجات العيش والبقاء في غزة المحاصرة والمدمّرة جراء الحروب السابقة، اشتعلت حرب سيف القدس لأحد عشر يوماً، تبادلت به المقاومة مع (إسرائيل) النار بالنار والقصف بالقصف، نالت غزة حصتها الأكبر، ولكنها برغم ذلك كانت الأقوى على الاحتمال، فالحرب والقصف والقتل أمر يعرفه أهل غزة وقد جرّبوه مراراً، ولكن تل أبيب والقدس والعمق (الإسرائيلي) الذي نال حصة وافرة من الصواريخ لم يكن معتاداً على مثل هذا الحال، وانكشف تهافته وعدم قدرته على تحمّل ضجيج الحرب ودبيب صواريخها، لا أكلافها فحسب، والنتيجة كانت أنّ المقاومة هي التي أدخلت أهدافاً أكثر في الشباك (الإسرائيلية)، وصنعت معادلة ردع جديدة، ومرة أخرى لم يكن أداء السلطة الفلسطينية أثناء الحرب فاعلاً أو متناسباً مع حجم الحرب.
الحكومة في رام الله تعاني فوق ذلك كله من جفاف روافد الدعم المالي، فعدد من الدول العربية تنصّلت من التزاماتها المالية تجاه المسألة الفلسطينية، في حين خفض آخرون دعمهم إلى مستويات متدنية، وذلك لأسباب متعددة، منها ما يتعلق بالتطبيع مع (إسرائيل) ومنها ما هو مستجيب للإملاءات الخارجية، ومنها ما يتعلق بالشعار الجديد الذي أخذت ترفعه أنظمة عربية عديدة: نحن أولاً، الأوروبيون بدورهم الذين أبدوا انزعاجهم من تأجيل الانتخابات، أوقفوا مددهم المالي لهذا السبب أو بسبب إجراءات إدارية عندهم تتعلق بإعادة هيكلة صناديقهم المالية، وإعادة رسم سياسات الدعم، وربطها بالسياسة طبعاً وإنْ تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لكن متاعب السلطة لم تتوقف هنا، وإنما زاد عليها ما نشره الإعلام (الإسرائيلي) من وثائق حول صفقة لقاحات كورونا، إذ انّ السلطة وقعت اتفاقية مع (إسرائيل) على تسلّم مليون واربعماية ألف مطعوم تشارف صلاحيتها على الانتهاء خلال فترة قصيرة، مقابل أن تأخذ (إسرائيل) بدلاً منها لقاحات جديدة طويلة العمر من الشركة الصانعة (فايزر)، وهو اتفاق يستحيل تبريره. وهذا ما أكدته لجنة التحقيق التي شكلتها السلطة في تقريرها، ولكن حادث استشهاد الناشط نزار بنات أتي ليجبّ ما قبله، ويصبح الحدث الرئيس وذلك لما يملك الشهيد من حضور لافت في المجال الفلسطيني، والخارجي، ثم لما في الجريمة من فظاعة وتفاصيل بشعة.
إدارة الرئيس بايدن وهي بلا شك اللاعب الرئيس وصاحبة الدور الأهمّ في إدارة الملف الفلسطيني، سبق لها أن رأت أنّ الوضع في فلسطين يتسم بالسكون والرتابة، فلم ترَ داعياً للاهتمام به، ولكنها منذ أيار أخذت ترى أنّ وضع السلطة الفلسطينية أصبح مثيراً للقلق، ولكنه بالنسبة إليها أفضل الممكن، ثم أن ترشيح من تراه مناسباً لرئاسة الحكومة لا يزال مبكراً وسابقاً لأوانه، وهي في ذلك تقيم ميزاناً دقيقاً بين رغبتها في مرشح بعينه قادر على إدارة السلطة بشكل أفضل ويستطيع خلق حالة من الرخاء والازدهار، وبين قرارها بضرورة دعم حكومة بينيت التي ترفض مجرد فكرة التفاوض على حلّ الدولتين، وبالتالي فإنّ الطريقة الأنسب أميركياً لإدارة الملف الفلسطيني – (الإسرائيلي) تتمثل بالتزام بمعادلة دعم السلطة مالياً، والدعوة للتفاوض من جديد مع إشارات عن تأييد واشنطن لحلّ الدولتين (وإنْ كان الكلام غير ملزم، ولا يتسم بالجدية) والتلويح بإمكانية إعادة فتح قنصليتها بالقدس الشرقية، والتذكير بالانتخابات، ثم تمرير بعض الأموال لمنظمة الأونروا والضغط على حكومة الاحتلال لمنح تسهيلات حياتية ولتخفف من إحراج السلطة بالاقتحامات والتوسع الاستيطاني، وفي المقابل دعم حكومة نفتالي بينيت سياسياً، فبديلها الوحيد حتى الآن هو بن يامين نتياهو، الشخص الذي تجد الإدارة الديمقراطية صعوبة في التعامل معه، وتحمل ضدّه كثيراً من الأحقاد السياسية والشخصية، وهذا بعض ما خلص إليه المبعوث الأميركي هادي عمرو إثر زيارته الأخيرة لكل من رام الله وتل أبيب، وهذه هي الطريقة التي يرى أنها تدرأ القش الجاف من عود الثقاب القادر على إشعالها، وهذا ما ناقشه وطالب به الملك عبد الله الثاني في لقائه مع الرئيس الأميركي.
تشير الأنباء الصادرة عن رام الله وتل أبيب إلى أنّ لجنة مشتركة قد تشكّلت لبحث أمور مدنيّة واقتصاديّة تهدف الى تعزيز السلطة، يمثل السلطة الفلسطينية فيها الوزير حسين الشيخ فيما يمثل الحكومة (الاسرائيلية) الوزير من أصل فلسطيني عيساوي فريج.
يلاحظ المواطن الحائر أولاً انّ كلّ الحديث الدائر قائم على الاقتصاد والتسهيلات المعيشية، ولا تتمّ الإشارة الى أية عملية أو مسألة سياسية، وكأن الشأن الفلسطيني أصبح شأناً إغاثياً لا سياسيا ـ وطنيا ـ قوميا، ويلاحظ ثانياً انّ الحديث يدور حول الضفة الغربية فقط فيما تلاشى الحديث عن فتح المعابر او إعادة الإعمار، وعما ذكر من ملايين في الطريق وشاحنات وآليات ثقيلة متجهة الى غزة للشروع في إعادة إعمارها، الأمر الذي يشي بأنّ غزة تحتاج الى اشتباك جديد تعود به الى دائرة الاهتمام.