تراكمت في السنوات الأخيرة جملة متزايدة من الإشارات والمعطيات الخطيرة التي تؤكد من جهة أولى: أن المؤسسة السياسية الأمنية الأكاديمية الاستراتيجية الإسرائيلية فتحت و/أو سحبت من الجارور ملف الصراع الديموغرافي المتفاقم على أرض فلسطين التاريخية وخاصة في فلسطين المحتلة 1948، في الوقت الذي أخذت فيه تلك الأصوات المنادية بـ "ترانسفير" جماعي جديد ضد الشعب العربي الفلسطيني تتزايد وتتقوى من جهة ثانية، ما أدى من جهة ثالثة إلى تراصف الأسئلة والتساؤلات الكبيرة المتفجرة المتعلقة باحتمالات عودة الحكم العسكري وتعميق الفصل العنصري الإجرامي بحق أهلنا في المناطق المحتلة 48.
فوفق المؤشرات الإسرائيلية فإنه ما من موضوع راهن يحتشد حوله "إجماع قومي إسرائيلي" أكثر من موضوع "الصراع الديموغرافي العربي – اليهودي في فلسطين" و "الخطر الديموغرافي" الذي يشكله التكاثر العربي على الطابع اليهودي للدولة الصهيونية.
وليس من قبيل المبالغة أن نثبت بالعنوان الكبير بداية أن الهبة-الانتفاضة-المواجهة-الجولة الحربية الأخيرة فتحت بقوة كافة ملفات القضية الفلسطينية والصراع العربي – الصهيوني، وفي مقدمتها ذلك الملف المتعلق بجرائم الحرب الصهيونية التي اقترفت (وما تزال مستمرة حتى يومنا) ضد الشعب العربي الفلسطيني، وفي مقدمتها على نحو خاص تلك الجرائم المتعلقة بالتدمير الشامل للمجتمع المدني الفلسطيني بمدنه وقراه ومؤسساته وبنيته التحتية برمتها، والتي أدت إلى ترحيل – ترانسفير – جماعي للشعب الفلسطيني… وما أشبه اليوم بالبارحة إذ واجه ويواجه الشعب العربي الفلسطيني في هذه الأيام المجيدة من تاريخه النضالي ذات النوايا والمخططات والخرائط الصهيونية المبيتة، ولعل الأخطر منها على الإطلاق تلك النوايا والمخططات والخرائط (التي على ما يبدو يحتشد المجتمع الإسرائيلي وراءها اليوم أكثر من أي وقت مضى) الخاصة بالاجتياح والاقتحام الشامل للمجتمع المدني الفلسطيني في المناطق لمحتلة 48، وبالترحيل الجماعي للفلسطينيين.
ولعلنا نشير في هذا الصدد حصراً إلى أن المجتمع السياسي / الأيديولوجي الصهيوني / الإسرائيلي وإن كان لم يسقط ولم يغفل أبداً من أدبياته وسياساته مسألة الصراع والخطر الديموغرافي العربي في فلسطين، إلا أن الجدل الإسرائيلي الأشد استعاراً وهستيرية حول هذه المسألة برز بقوة على نحو ملفت للانتباه خلال الانتفاضة الفلسطينية 1987-1993، وعاد ليطل برأسه بقوة أكبر خلال انتفاضة الأقصى والاستقلال /2000 ليصل إلى ذروته في "وثيقة هرتسليا حول ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي"، ولكن ليتجدد هذا الجدل حول الوجود العربي والخطر الديموغرافي في المناطق المحتلة 48، ما يستدعي بالتالي بإلحاح كبير متزايد فتح هذا الملف – الصراع الديموغرافي في فلسطين – على أوسع نطاق ممكن، ليس فقط من أجل عرض وتوثيق المعطيات والوقائع، وإنما الأهم من أجل التكيف والتأقلم الفلسطيني / العربي مع هذا الشكل من الصراع الوجودي بين العرب وبني صهيون في فلسطين، باعتباره الشكل / الصراع الأساس الذي سيهيمن على امتداد مساحة فلسطين في المرحلة القادمة، إلى جانب جملة أخرى من أدوات وأشكال الصراع ، سواء أكان ذلك في ظل الانتفاضة والمواجهات والحروب المحتملة، أو في ظل عملية مقنعة ناعمة تفرض صمت المدافع لمرحلة معينة .
يمكننا القول ببالغ القناعة، أن الجدل السياسي / الأيديولوجي التراتسفيري الذي واكب المجتمع السياسي الإسرائيلي على مدى سنوات وجودة وحراكة، قد بلغ أخطر ذروة له في ذلك المؤتمر الذي عقد في مستعمرة هرتسليا، التي أقيمت على أنقاض قرية حرم سيدنا علي المدمرة، ذلك المؤتمر الذي نظمه المركز المتعدد المجالات خلال الفترة 19،21 كانون أول /2000، وصدرت عنه وثيقة لم يجر تعميمها إلا في أواسط آذار /2001، وقد تم تسليم الوثيقة من جانب المقيمين على المؤتمر في طقس احتفالي إلى الرئيس الإسرائيلي موشيه كتساب، مما يعزز الاعتقاد بأن القصد من وراء ذلك هو أن يلقي كتساب بثقله الكبير نوعياً مع وجود حكومة إسرائيلية يتزعمها حزب الليكود، من أجل وضع مضامين الوثيقة تحت التطبيق بالسرعة الممكنة.
حملت الوثيقة عنوان المؤتمر: وهو "ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي – اتجاهات لسياسة عامة"، وحسب اعتراف الصحافي الإسرائيلي يئير شيلغ في صحيفة هآرتس "فإن اليمين الإسرائيلي ما كان في قدرته أن يصوغ توصيات تعكس أفكاره العنصرية الترانسفيرية الجامحة بأفضل مما صاغته تلك الوثيقة".
وحينما نؤكد أن وثيقة هرتسليا هي أخطر ما أعد صهيونياً في موضوع الصراع الديموغرافي والتحريض العنصري ضد الوجود العربي في فلسطين، فذلك نظراً أولاً لعدد ونوعية المشاركين في المؤتمر، ونظراً ثانياً للتوصيات العنصرية الاستراتيجية الخطيرة التي تكثفت في الوثيقة.
فقد وقف على تنظيم المؤتمر شخصيات بارزة في المؤسسة الأمنية والأكاديمية الإسرائيلية، من ضمنهم اسحق حوفي ومئير عميت وشبتاي شبيط، وزلمان شوفال، والبروفيسور حاييم هراري، والبروفيسور أهود شفرينتسك، أما المحاضرون فكانوا من أبرز الشخصيات في المؤسسة الأمنية والسياسية والأكاديمية، فضلاً عن عدد الحضور الذي وصل إلى 300 شخصية، وكما أعلن الدكتور عوزي أراد رئيس المؤتمر والعقل المحرك والمنظم له (وكان المستشار السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو): "أن من لم يحضر المؤتمر كأنه لا ينتمي إلى القمة الإسرائيلية".
وفي أعقاب المؤتمر بلور القائمون عليه كافة الأفكار التي عرضت في سياقه في وثيقة واحدة، اشتملت على جملة كبيرة من التوصيات في مختلف المجالات الحيوية والاستراتيجية مثل الأهمية الاستراتيجية ليهود الخارج، وأهمية البحث والتعليم التكنولوجي، والتأكيد على استراتيجية الردع وليس الدفاع فقط. غير أن الوثيقة أولت الاهتمام الأكبر والمركزي لما أسمته: "التهديد الديموغرافي الذي يشكله السكان الفلسطينيون في داخل "إسرائيل" على "إسرائيل اليهودية".
وكي نتلمس الأفكار العنصرية الكامنة في وثيقة هرتسليا، وعلى وجه الخصوص منها، تلك الأفكار المتعلقة بالخط الديموغرافي العربي والدعوات " الترانسفيرية " المنبثقة عنها، نقرأ أولاً وقبل كل شيء أهم المحاور والعناوين والنقاط التي اشتملت عليها الوثيقة :
1- إسرائيل هي دولة الشعب اليهودي، مشاكل الدولة الاثنية وحاجتها إلى مناعة قومية ناجمة عن النزاع اليهودي – العربي، الذي يرافق الحركة منذ بدايتها.
المصطلحات "مناعة قومية"، "وحدة الهدف"، "الذاكرة الجماعية"، و"المسؤولية المتبادلة"، تتطرق إلى مجتمع الأغلبية اليهودية في إسرائيل، وليس بالضرورة إلى الدولة في مجملها، من وجهة نظر توطيد الأمن والمناعة القومية، ثمة ضرورة لإكساب قيم الصهيونية والذاكرة الجماعية اليهودية والصهيونية في أطر التعليم الرسمية وللتعبير عنها في الرموز الرسمية.
2- في حال استمرار الاتجاهات الديمغرافية فإن ذلك يضع تحديا أمام مواصلة وجود إسرائيل كدولة يهودية. وتمثل أمامها استراتيجيتان بديلتان: تكيف وملاءمة، أو كبح جماح ومواجهة، استراتيجية المواجهة تستوجب سياسة ديمغرافية صهيونية حازمة وبعيدة المدى، تعبيراتها السياسية والاقتصادية والتربوية تؤمن الطابع اليهودي لإسرائيل إلى مدى بعيد، كذلك ستكون هناك ضرورة للعمل من أجل مأسسة وتوطيد وتوثيق عرى الصلة والعلاقة مع الشعب اليهودي في العالم، الذي يشكل ظهيرا وعمقا استراتيجيا حيويا لإسرائيل.
3- تقف إسرائيل أمام ثلاثة دوائر مواجهة، من شأنها أن تتداخل بعضهما في بعض:
- دائرة محاذية – فلسطينية "بما في ذلك داخل إسرائيل ذاتها" وجنوب لبنان – لمواجهة في تكثيف أو تركيز منخفض، أي: إرهاب، حرب عصابات وعصيان مدني.
- دائرة قريبة – سورية مع إمدادات محتملة من جانب مصر والعراق وربما الأردن كذلك – لحرب في تكثيف عال، في اليابسة والجو والبحر.
- دائرة بعيدة – في عمق الأراضي السورية وفي العراق و إيران – لحرب استنزاف ضد الجبهة الداخلية بوساطة صواريخ أرض – أرض، مع تصعيد محتمل نحو سلاح تقليدي.
- لقد بني "تساهل" (جيش الدفاع الإسرائيلي "لإنجاز مقدرة دفاع وردع معينة في الدائرة القريبة، مع ردع وعقوبة ودفاع في الدائرة البعيدة أيضا.
حاليا كما في الماضي، توجد إسرائيل في ذروة مواجهة داخل الدائرة المحاذية، وفي أثناء ذلك فإنها تستخدم خليطا من الوسائل العسكرية والاقتصادية والسياسية لتحقيق هدوء ودفع تسوية سياسية إلى الأمام – قدرة الصمود في مواجهة من هذا الطراز تستوجب الصبر والصلابة من جانب الجمهور كله.
4- "تساهل" هو جيش كبير، حتى بالمقارنة مع جيوش الدول الأوروبية العظمى – بريطانيا وألمانيا وفرنسا – لكنه يقل عنها، بصورة ملموسة، في الميزانية الجارية، رغم ذلك فإن بقاءه ممكن لعدة أسباب من بينها التقلص العميق في المخزون الاحتياطي، من خلال الاستناد على الفرضية القائلة أن حروبا في تكثيف عال في منطقتنا ستكون قصيرة.
المهمة الرئيسية الماثلة أمام البحث والتطوير العسكري خلال الجيل الأخير، تتمثل في زيادة الدقة ومضاعفة عامل النار في ساحة المعركة، بوساطة التسليم الموجة الدقيق.
من أجل إتاحة المجال أمام التزود بمنتوجات البحث والتطوير هذه في ظل ظروف تقليص ميزانية الأمن، تم تقليص أطر قتالية عفا عليها الزمان من نظام القوات، بالإضافة إلى ذلك، فإن عملية بناء القوة تعترضها صعوبات دائمة، عقب غياب تخطيط موازنة ملزم لأفق الزمان المطلوب.
5- العملية السياسية الإقليمية التي بدئ بها قبل عقد من السنوات في مدريد استنفذت نفسها، والمطلوب الآن هندسة تصميم جديدة لتنسيق عمليات التفاوض المستقبلية.
ليس في متناول أيدي إسرائيل بمفردها أن تبلور الصياغة المستقبلية، لكن في مقدرتها أن تقرر فيما إذا كانت معنية، عبر التنسيق مع الولايات المتحدة وأوروبا، التوجه نحو بناء إطار متعدد الأطراف جديد للمفاوضات، أم أنها تؤثر التمركز في مسارات ثنائية الأطراف، وسواء تقرر هذا أم ذاك، ينبغي إعطاء أفضلية لعمليات تسوية محسوبة وقابلة للتطبيق وتدريجية.
6- على الرغم من ذلك، ثمة إمكانية كبيرة لآن يستمر النزاع اليهودي – العربي، في الجيل الحالي ويبدو في الجيل القادم أيضاً، بالتأرجح بين الحرب والسلام، بحيث تتداخل فيه المواجهات العنيفة مع المفاوضات السياسية، وسيتعين على إسرائيل من جهة واحدة، أن تظهر تمسكها بالتسويات والتطبيع مع العالم العربي، ومن جهة ثانية أن تكون جاهزة لحروب في مستويات تكثيف متغيرة.
7- في المستقبل المنظور ستكون إسرائيل مطالبة بمواجهة مباشرة مع سيرورات تحمل في أحشائها مخاطر وجودية، الفشل في هذه المواجهة أو التنصل منها من شأنهما التأدية إلى موت المشرع الصهيوني، ومن هنا الحاجة إلى تحصين مناعتها، وإلى تبني استراتيجية زيارة القوة في كل واحد من مداميك نفوذها.
"-إلى هنا بنود الوثيقة -"
الديموغرافيا في وثيقة هرتسليا
وقد عالجت الوثيقة في إطار خطوطها الاستراتيجية كما يتبين من نصوصها خمسة مداميك أساسية ربطت فيما بينها ربطاً عضوياً تكاملياً استندت إليه في توصياتها الختامية، والمداميك هي: المدماك اليهودي – السكاني -، والمدماك السياسي، والمدماك العسكري، والمدماك الاقتصادي، والمدماك التكنولوجي.
وما يعنينا هنا في سياق هذه الدراسة أكثر من غيره هو المدماك السكاني الذي عالجته الوثيقة كما يلي:
المدماك اليهودي –السكاني عام
"على فرض أن الاتجاهات الديموغرافية الحالية ستستمر، فسيحصل في جيلنا منعطفان مهمان: الأول، للمرة الأولى منذ قيامها، ستصبح إسرائيل دولة يعيش فيها أكثر من نصف الشعب اليهودي، بينما ستأخذ هذه النسبة في الازدياد، والثانية أن الأقلية العربية في إسرائيل ستصل إلى ربع السكان، وربما إلى أكثر من ذلك والأغلبية اليهودية في إسرائيل ستأخذ في التقلص بموجب ذلك.
* الاتجاهات الديموغرافية في داخل إسرائيل ومحيطها واسقاطاتها من ناحية طابعها وهويتها كدولة يهودية تابعة للشعب اليهودي، تضع إسرائيل أمام تهديد كبير، التهديد الديمغرافي لاستمرار وجود دولة إسرائيل هو الأكثر قربا ومعقولية، وتيرة تطور التهديد - متسارعة، وتيرة السياسة القومية حيال التهديد – زاحفة.
هذه العملية تحمل اسقاطات مهمة:
- زيادة الوزن الديموغرافي لل"أقلية العربية في إسرائيل"، تفرض امتحانا مباشرا وصعبا على مستقبل إسرائيل كدولة يهودية - صهيونية ديموقراطية.
- من المتوقع أن تتفاقم التحديات الأمنية الناجمة عن الروابط والولاءات العربية لل"أقلية العربية في إسرائيل"، طالما بقي النزاع العربي – الإسرائيلي.
- يشكل شعور الغبن السائد في أوساط السكان العرب مجالا خصبا للتوتر والتذمر المتصاعدين، اجتماع هذه التوترات مع الاغتراب السياسي، الذي يتغذى هو أيضا من التحريض، من شأنه أن ينعكس في مجموعة من السلوكيات العدائية والخطيرة، من ناحية الحفاظ على القانون وسلامة الجمهور.
لا شك أن هذه الوثيقة الصادرة عن أخطر مؤتمر استراتيجي إسرائيلي – مؤتمر هرتسليا – تشكل الخلاصة المكثفة لذلك الكم الهائل من الأدبيات والأفكار والمشاريع والأصوات الإسرائيلية الداعية إلى تدمير المجتمع المدني الفلسطيني – كما حصل عام 1948 - وإلى تنفيذ " الترانسفير " جماعي مرة أخرى ضد الشعب الفلسطيني، بغية التخلص من أكبر كم أخر من الفلسطينيين المنتشرين في أنحاء فلسطين، ومن أجل الحفاظ حسب زعمهم على الطابع اليهودي للدولة العبرية، بالحفاظ على الأغلبية السكانية اليهودية فيها.
وما الإجراءات القمعية الحصارية الخنقية العنصرية التي تطبقها الحكومات الإسرائيلية على مدار الساعة منذ إقامة الدولة الإسرائيلية ضد أبناء الشعب العربي الفلسطيني في فلسطين 1948 أولاً، ثم ضد أهل الضفة الغربية والقطاع بعد احتلالها عام 1967 ثانياً، الا شكل أيضاً من أشكال الحرب الديموغرافية العلنية والمقنعة التي تشنها سلطات الاحتلال ضد أهلنا في فلسطين التاريخية.