بقلم: محمد العبد الله . .
مقدمة
سنوات أربع، انقضت على تلك الساعات الأولى من يوم 6 / 3 / 2017 التي قطع سكونها صوت اطلاق الرصاص الغزير الذي أعقبه صوت انفجار ضخم نتج عن قذيفة "أنيرغا" أطلقتها قوات الغزو الصهيوني باتجاه الشقة التي تحصن فيها "باسل الأعرج"، وقاتل من داخلها حتى الرصاصة الأخيرة. لم يستسلم ولم يرفع الراية البيضاء، المطلوب رقم 1 لجيش العدو، على خلفية اختفائه لأكثر من ستة أشهر، بـ"تهمة" نشاطه ودوره في مقاومة الاحتلال .
لم يكن الباسل في هذا اليوم / الذكرى مجرد رمزية موسمية تَحْضُر في ذكرى الغياب، فالشهداء يُقيمون في الوعي والحلم والرؤى، داخل عقل ومشاعر المناضلين والمناضلات، وعند كتلة وازنة من الشعب، لأنهم بتضحيتهم يرسمون لجيل كامل، مسار الكفاح من أجل حرية الوطن وتحرر الإنسان. هنا، قَدَّم الباسل في حياته واستشهاده، نموذجاً لفدائي من طراز استثنائي، لأنه أكد باستشهاده أن "الكلمات التي لا تتطابق مع الأفعال، غير مهمة" كما يقول الثائر الأممي "جيفارا".
تحضر الذكرى الرابعة لغياب الباسل هذا العام، وفلسطين القضية والأرض، تتعرضان لمذابح على أكثر من صعيد، نتيجة هجمة متعددة الأشكال والمسارات. فالقضية التحررية للشعب الفلسطيني التي كانت – وستبقى لدى قطاعات واسعة من الأمة – هي القضية المركزية في المواجهة العربية مع قوى الاستعمار والهيمنة والتقسيم، بدأت تتعرض في الأشهر الأخيرة لهجمة شرسة يقودها المركز الإمبريالي/ الصهيوني، عبر أنظمة عميلة، انتقلت من التآمر السري داخل الغرف، والعلاقات المخفية مع كيان العدو إلى أبعد من التطبيع، لتُشكل تحالفاً استراتيجياً، تُصبح من خلاله، الامتداد الجيو سياسي والقاعدة / المستعمرة الاستخباراتية والعسكرية للكيان الصهيوني في أكثر من دولة عربية. كما تتعرض الأرض الفلسطينية إلى المزيد من التوسع الاستعماري/ الاستيطاني من خلال بناء العديد من الوحدات السكنية الجديدة في المستعمرات، ومصادرة الأراضي المترافقة مع حملات هدم البيوت وطرد أصحابها، مع اشتداد حملات الاعتقالات شبه اليومية – 400 حالة اعتقال خلال شهر شباط / فبراير الفائت بينهم 39 طفل و 5 نساء، كما أعلن مركز فلسطين لدراسات الأسرى - ومن الواضح أن ما يجري داخل الوطن المحتل منذ عام 1948 من تصعيد واضح في السياسات العنصرية مع اتساع الجريمة المنظمة – التي تغض الطرف عنها قوات الشرطة، بل إن أجهزة الاستخبارات في حكومة العدو تعمل على تشجيعها - بشكل شبه يومي كما يظهر في حوادث القتل داخل المجتمع العربي.
الباسل مُتفرداً
لم يكن استشهاد الباسل حادثا خارج المألوف في مسيرة المقاومة في فلسطين الممتدة على قرن ونيف من المواجهة مع الغزو الإمبريالي / اليهودي- الصهيوني . لكن تَفرد الباسل في تلك المسيرة تأتي من البنية النظرية- الميدانية والسياسية التي عمل على بنائها وتطويرها، فكراً وممارسة على مدى عقد ونصف من حياته– استشهد في عمر ال32 عاماً -. لن أبالغ إذا قلت أن شهيدنا كان موسوعة فكرية قل نظيرها بين أبناء جيله. في الحوار مع عمة الشهيد "شيرين الأعرج" المنشور يوم 20 مارس / آذار عام 2017 الذي أجراه موقع "بيلست الإخباري" تتحدث عن باسل، وهي الأكثر قرباً، روحياً وعائلياً له "لقد أتم قراءة 3000 كتاب، حتى الخامسة والعشرين من عمره، في كل المجالات من التاريخ والسياسة والاجتماع والفكر، والعسكرية التي ركز عليها في الفترة الأخيرة". وقد اقترن بهذه القراءات، خاصة التاريخ المكتوب عن المقاومة الفلسطينية والنضالات الشعبية، بحث ميداني على الأرض كانت أدواته ليست الكتابات – رغم أهميتها – بل المقابلات التي أجراها الباسل مع من اقترن اسمه بتلك التجارب الكفاحية: أفرادا وجماعات. وبهذا، فقد قَدَّم الباسل نموذجاً عن ماهية المثقف الثوري/ المشتبك الذي ربط بوحدة كاملة، الوعي النظري بالعمل والفعل الكفاحي المعدد الأوجه: المظاهرات والاشتباك المسلح مع الغزاة المحتلين.
ارتقى الباسل شهيداً بعد أن "عاش نيصاً وقاتل كالبرغوث "كما كتب عنواناً لإحدى مقالاته. قاتل من المسافة صفر، وهو المُعجب بعمليتي "وادي عيون الحرامية" قرب بلدة سلواد 3/ 3 / 2002 ، و"زقاق الموت" الخليل 15 تشرين الثاني / نوفمبر 2002 .
خاتمة
في وصيته التي افتتحها بـ (تحية العروبة والوطن والتحرير) تسجيل واختزال للأفكار التي أضاءت له دروب المقاومة. فقد كانت العروبة بالنسبة إليه، انتماءً ووعياً ومقاومة. لهذا كانت زيارته للبنان، تجسيداً لذلك الانتماء وترجمة لعمق الوعي المقاوم. أما الوطن والتحرير فقد تجسدا فكراً واستشهاداً، بالتوأمة بينهما .أما خاتمتها، فتحمل من كاتبها اعترافاً بالقناعة التامة لما وصل إليه، بوعيه وثقافته التي مارسها على أرض الواقع (أنا الآن أسير إلى حتفي راضياً مقتنعاً وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني وهل هناك أبلغ أو أفصح من فعل الشهيد. وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهور طويلة إلا أنَّ ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء فلماذا أجيب أنا عنكم فلتبحثوا أنتم. أما نحن أهل القبور فلا نبحث إلا عن رحمة الله).
بجانب أوراق الوصية، ترك الشهيد لرفاقه ورفيقاته ولشعبه، كُتُباً وسلاحاً ومقذوفات فارغة، ومخازن الطلقات التي أفرغ كل رصاصها وهو يتصدى لجيش القتلة المحتلين . وهل هناك أبلغ من كل ما تركه باسل: أفكاراً وسلاحاً ونهجاَ والشهادة. ارتقى الباسل شهيداً، كما أراد أن يموت، وهو النموذج الجيفاري المُعاصر، كما قرأه في عبارة "تشي جيفارا" الخالدة (في حب بلادك، لا تكن محايداً، كن متطرفاً حتى الموت(.
أيها الباسل / سنبقى نردد ما أكدته "لا تحلموا بعالم سعيد ما دامت "إسرائيل" موجودة ".